من خلال ما تقدّمه الشعرية العراقية من نتاجات متواصلة في ألوان الشعر، تظهر امامنا بعض التجارب وهي محمّلة بشيء من المغامرة والكشف الجديد، ولعل ما قرأناه في العقد الأخير يُبرهن على ان الشعرية العراقية ما تزال تبحث عن التجديد، ربما هي جينات متوارثة ان يكون الشعر العراقي عبر مراحل تاريخه الطويل له بصمة مؤثرة بأشكال متعددة، هنا بالذات أكشف عن تجربة الشاعرة بلقيس خالد و (شعرية الهايكو العراقي)، من خلال مجموعتها (دقيتان .. دقيقة واحدة/ 2019)، وقبل الدخول الى تجربة الشاعرة ومجموعتها، لا بد من الاشارة الى (الهايكو) بوصفه شعرا يتعامل مع اليومي او الحياتي بلغة مختزلة او مكثفة، وان اصل مرجعياته الاولى جاء في الشعر الياباني، غير ان الشاعر العربي حين يعتمد هذا اللّون في كتاباته الشعرية، فإنّ الواعز الاساس المعتمد هو الخيال بذهنية الشاعر العربي، لذا، جاءت التجارب الشعرية في (الهايكو العراقية) متماثلة مع الشكل الفني الذي جاءت به القصيدة اليابانية، بمعنى اننا ازاء الكتابة الشعرية في مضمونيتها، حالها حال أية قصيدة حديثة بلغات مختلفة تأخذ الشكل كإستعارة فنية، وتشتغل على المضمون بوصفه جوهر الشعرية المعمول عليها ..

الشاعرة بلقيس خالد، ادركت اللّعبة حين اطلعت على تفاصيل كتابة هذا اللّون الشعري، إذ هناك تقانات يبدو انها لازمة في كتابة بعض القصائد مثل (نهاية كل مقطع بتنصيص) أو بشرطة)، ولمجرد الاطلاع وضبطه، تكون القصيدة جاهزة للكتابة، وهذا ما لمسناه وقرأناه في كل قصائد المجموعة، ولنصارح الشاعرة، او لنضعها وجها لوجه امام نصوصها، هل بعض دقائق الموضوعات المكتوبة في القصائد تقف عند جنس الهايكو، أم فيها سياق نثري ..؟ أعتقد بأن هذا التداخل لا يؤثر كثيرا، لأنّ (أهم الشروط التي يجب التزام الهايكست بها هو تجنب التشخيص او أنسنة الاشياء)، بحسب (سميرة عبد الرسول في مقالها الهايكو/ صحيفة المثقف)، فالهايكو فن شعري يلامس اليومي/والحياتي، وبلغة مكثفة، او جمل سريعة مكتملة المعنى، وتقوم على قراءة الواقع قراءة ناقدة بكلمات محسوبة ..

في قصائد (دقيقتان .. ودقيقة واحدة)، كانت هناك خيوط اعتمدت التوصيف والدلالة معاً، حيث موضوعات كثيرة طرحت دفعة واحدة بعنوانات متعددة، وبلغة عيانية احيانا، بمعنى اقترابها من المشهد المكاني المباشر في المدينة التي تسكنها الشاعرة (مدينة البصرة)، لكن الأسلوب البنائي الذهني في بعض القصائد اعطى قراءة مختلفة حايثت المعنى الدلالي لقصيدة النثر مثلا، او القصيدة النثرية التي كتبت بطريقة مقطعية او عنقودية، فعملية الخروج عن ضوابط الهايكو الأصل هي الكتابة في مخيلة اللّغة الشعرية العربية العراقية او بحسب تصنيفها (هايكو عراقي)، ولنا في ذلك بعض النماذج التي سنصنفها ..

في المقاطع الأولى (حكايات) والتي احتوت على (14 مقطعاً)، تداخلت موضوعات عديدة في بوتقة واحدة، فكان (الزمان/ المكان/ الحدث/ وبعض المشهديات)، أخذت بعدا فنياً/ بنائياً، لكن سمة شعر الهايكو اشتغاله على وحدة الموضوع في كل نص باعتقادي الخاص، وإن كان هايكو عراقي، نقرأ، في بنية المكان المقطع (2): (البساتين : حكاياته، / ذلك جائز .. لكن / كيف لنهرٍ صغيرٍ أن يروي بحراً؟) ص8 .. أو في المقطع (3) نقرأ (الصحراء حكاياتها الواحات ../ ومن روايتها الشفيفة : السراب) ص8 .. وفي الزمان نقرأ في المقطع (5) (الزمن حكاياته ذكريات / ترويها التجاعيد)ص9.. وتناظرت هذه الموضوعات في أغلب القصائد، وفي بعضها كانت هناك ضربات شعرية استوقفتنا لبلاغتها كما في قصيدة (منحدرات متصدّعة) المقطع (16): (جدّتي .. كم عمرك الآن؟ / سكتت ../ لتعد جبهات القتال) ص19. او في (لا أحد يسأل عنّا مثل الصباح) نقرأ في المقطع (4) (على مدار دقائقها .. تذكرنا السماعة بأشياء: لا تعنيها) ص57. وفي بعض القصائد وتحديداً (شهقة في رئة المكان) حافظت الشاعرة على موضوعتها في الهايكو العراقي، وأعني هنا بالتحديد الحفاظ على ابعاد الموضوعة المشتغل عليها بمقاطعها الـ(6) حيث الـ(الباب / البيت / الجلوس) قرأناها بتراتبية محسوبة ومنضبطة، المقطع (1) (أرقب الباب / 

لأحرس البيت) والمقطع (2) (حياة جميلة خلف الباب / والمعنى المدفون ..أنا) والمقطع (3) (ستظل غريباً بنظر جدرانه : / البيت الذي تشتريه)، ظهرت حكمة الموضوع وفلسفته من خلال الثنائية المكملة لبعضها (العنوان) و(المتن/ الموضوع) مع اكتمال المعنى الدلالي بكليته بحسب (جيرار جينيت)، وتكون قصيدة الهايكو بصراحتها واكتمالها الفني.. ان مسألة الخوض في كتابة هذه الطريقة الشعرية تعد مغامرة من قبل الشاعرة، لحساسية هذا اللّون الشعري، ولشروطه الدقيقة والحذرة في اختيار الموضوعات، وبلقيس خالد ركبت موجة المغامرة وقدمت منجزها، وربما يلحقه منجز آخر تكمل فيه بعض الدلالات غير المكتملة، وليس غريباً على شاعرة تعيش في مدينة مجددة للشعر ومجربة للتجارب الإبداعية والأدبية 

الأخرى..

*جريدة الصباح / الأثنين 15 تموز 2019 50

عرض مقالات: