عليكَ أنْ تُفكرَ بأنَّ العالمَ ليسَ مُلكَكَ وحدْكَ، وأنّكَ لستَ امبراطواراً، ولاحتى حلّاقاً لتنحني الرقابُ أمامَه بلذة المصلحة والعرفان والمُتعة. أنتَ كائنٌ موهومٌ دائما، إحساسُكَ بالمطروديةِ يوهمكَ كثيرا بالبحثِ عن كنوزٍ مفقودة، أو ليالٍ غائبة، أو جنياتٍ يسكنّ البحرَ، لذلك تذهبُ بعيدا إلى سوانح اللغةِ، تغطس في استعاراتها، ومجازاتها، وتورياتها، وربما في خياناتها. هي قاربك الوحيدُ الى المتعة والتفريغ والتعمية والتضليل، وربما هي قاربك المثقوب و(السكران) الذي يقودك الى(اللاين) حيث اللا تاريخ واللا حافات، وحيث تأخذك النشوة، والشهوة الى الاقصى، وحيث تتحول اللغة الى بيت يشبه الواقعية السوداء لـ(شارلي شابلن) يشاطرك اصطناع الدهشة ووهم الخلاص، ووهم الهابيتوس، والنصُّ التعويضيُ، أو ربما المنطقة الحميمةُ، والتفاصيل الباشلارية الأليفة أو المعادية، أو حتى البيتُ القديم لعرائسِ طفولتك، إذ يُمكنكَ- عندها- أنْ تصنعَ من العابِها بيوتاً من الرماد أو أسفاراً في المتاهة، أو نساءً باذخات يأخذنّ بيدك الى الهذيان..
لحظةُ (الوهمِ الابيض) يا صديقي هي لحظتُك الكبرى، أو هي فضاؤك الذي تشعلُهُ بالحرائقِ والحكاياتِ، فأنتَ صانعُ متاهاتٍ من طرازٍ نادرٍ، لذلك تبتكرُ دائما طرقاً عوليسية لانهايات ولا حافات لها، تصنعُ لها بِحاراً عامرةً بالوحوشِ لتبررَ اسطورتَك القديمةَ، واسفارك المحفوفة بالقلق. لا شيءَ يدفعُكَ الآن للصحوِ من أوهامِكَ إلاّ صوتُكَ نفسُه، صوتُ ارتطامِ راسِك بالحائط، صوتُ انكسار المرايا، صوتٌ يَخرجُ من شقوقِ روحِك التي لا ترى، إذ هي تتحسسُ ندوبكَ فقط، ندوبُكَ العالقةَ على جلدِك الموهوم بحروبٍ لن تحدث...
الصحوُ-خارج هذا المسار-لعبةٌ مريرةٌ يا صديقي، ورعبٌ جمعي، عمومي لم تتعوده، فأنتَ المرآويُ الذي لا يرى الاّ عريَه، ووحدتَه، ولذائذه المسروقة، إذ تركت الحروب لوهم الجماعات، فكنت مسوسا بالبحث عن معناك، عن قميصك المقدود من جهات خمس، عن بينولوبك أو زليختك -لا فرق- لتقارب روح الماء أو الفكرة، ولتخرج بروحك من ذاكرة الاسفار المُضلِلة، والمعاني الفائضة، والمدسوسة تحت ركام من رماد الاقنعة والاستعارات..
أنت تعرفُ أنّ واقعك مشبوكٌ الى آلاف الحافات القديمة، حافة الايديولوجيا والخوف والطقوس والتعاويذ والاسحار والمقابر، لذا كنت تكتب نصك الضدي لتصنع عبره خلودك خارج تلك الحافات، ولتمنح لغتك وروحك طاقة التجوّل والسفر والطيران، تلجأ الى الشعر لتغوي تلك اللغة، ولتساكن روحك بنوع من الاطمئنان الباذخ..
الشعرُ أو أيُّ كلامٍ يخصُك، يظل رهانك المفتوح على الغائب، إذ يمكنُه منحك طاقة النفاذ بعيدا عن المحاربين الصغار، وعن حكايات موتهم الغرائبي، وبعيدا عن أحكامِ الجماعة والقوة التي تحوطك كثيرا بنصوصها وأوهامها ومقدّسها.
الشعر هو منقذك السحري، تملك عبر شفراتِه استعارة الحياة التي تخصك، واسئلة الحياة التي تمنحك غواية المعرفة واللذة والبحث عن الغامض والغائب. الشعر هو خصوصيتك النبيلة، وانت تواجه رعب العموميات الفاضحة، والتي تعني تغييبا قسريا لخصوصيتك وسْطَ عالمِ مسكون بالرعبِ العمومي، حيث تفقدُ كثيرا من نفوذَك الشخصي، وربما تكتفي بأحلامك، إذ يمكنها أن تكون مُنقِذا، لذا تمارس معها، ومن خلالها لعبتك المُضادة في الاغواء والمراودة ممارسةِ فائقة الخطورة في التلصصِ عليها، لأن العالمَ المحاربَ أخذَ يكرهُ نمطَ وحدتِك المُتعّسّفة، وغيرِ المُجدية، وحتى يكرهُ طريقةِ حروبِك القديمة، المسكونة بالشتائم والإكراهات والأوهام، والتي لا تنتصرُ على أحدٍ فيها، سوى ما يتبدى لك في المرآة، حيث أنتَ، وحدك المنتصر والمهزوم..
كيف اذاً ستخططُ لخروجِك من الجُبِّ اللغوي، من أوهامه اللزجة، من مُقدسه الفاقدِ للمعنى، من وطنِك المحشوِ بالشفراتِ والأحاجي؟ وكيفَ ستبتكرُ خياناتٍ تناسبُ خروجَك؟
هذه الأسئلة ستظل أسئلتك المُباحة والفادحةُ والعارمةُ والعاويةُ والغاويةُ...فاخرجْ للناسِ شاهراً قميصَك القديم المُدمّى، شاهراً ما تساقطَ من شهواتِكِ التي لا تمشي على اسرّةٍ أو أجنحةٍ، او على موجةٍ طالما راودتكَ بالبلل، والغرق، إذ هي خطيئتك الساحرة...
ما تبقى هو انتَ أيها العوليسي، فكنْ كما أنتَ دائما...

عرض مقالات: