بالنظر الى انهيار أنظمة التعليم وتخلفها في الكثير من البلدان العربية، تراجع الاهتمام بدراسة الأدب والنظريات الأدبية وتراجعت بالتالي القدرة على التحليل النقديّ لدى الأجيال الجديدة من الطلبة، إما نتيجة لعدم أهلية المدرّسين وعدم اختصاصهم، أو لعدم اهتمام إدارات المدارس بالعلوم الإنسانية عمومًا والتركيز على العلوم الصرفة والتقنيات، متناسين أن تنمية القدرة النقدية لدى الطلبة شرط أساس حتى بالنسبة لهؤلاء الذين سيتخصصون لاحقًا في مجال العلوم الصرفة، لأن التحليل النقدي لا يقتصر على الأدب وحسب، بل يتجاوزه الى جميع مظاهر الحياة وفهم الظواهر وآلية الابتكار ومعالجة الأخطاء وتحليل مسبباتها. وبقدر تعلّق الأمر بالأدب، كانت المناهج التعليمية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تركز على كتب النصوص وكيفية القراءة والتحليل النقدي التطبيقي واختيار عدد من النصوص الإبداعية وتكليف الطلبة بدراستها وتمحيصها ومن ثم محاولة تقديم رؤية تحليلية نقديّة لها. وحسب النظرية الأدبية المعروفة فإن مجموعة الأفكار والأساليب المستخدمة في الكتابة والبحث في شانها قد يوصلنا إلى معنى الأدب، وتشكل في مجملها مجموعة الأدوات التي نحاول بواسطتها فهم الأدب. وحسب أنظمة التعليم الغربية، يطلب في العادة من الطلاب كتابة مقالات التحليل النقدي الأدبي، لأن هذا النوع من التكليف يشجعهم على التفكير في كيفية كتابة النص الأدبي ولماذا كُتب وما الرسالة التي يريد توصيلها الى القارئ، ولتحليل الأدب بنجاح، يتوجب عليهم الإشارة إلى خيارات المؤلف ومحاولة شرحها وتحديد أهميتها، بالإضافة إلى تعلم آلية النظر إلى النص الأدبي من وجهة نظرهم الخاصّة، بدلاً من التفكير في نوايا المؤلف ورسائله الدفينة أو المتوارية وتقديم الحجج والأسانيد لدعم وجهات نظرهم النقديّة بالاستناد إلى النص وحده.
وإذا كان العمل الفني، سواء كان نصًّا أدبيًا أو لوحة تشكيلية أو عملاً مسرحيًا، لا يُفسر بطريقة مباشرة، أو أن التفسير قد يسيء إليه ويخرجه من شرطه الإبداعي، فإن التحليل النقدي غير التفسير المباشر وتحميل النص ما لا طاقة له به. إن مثل تلك المبادئ الأولية ما زالت تُدرّس في المدارس المتوسطة في الغرب بغض النظر عن تخصصات الطلبة أو خياراتهم المستقبلية على صعيد المهن التي سيختارونها.
لقد أدى انهيار نظام التعليم في العراق على سبيل المثال، إلى تردي مستويات المدرّسين وتراجع الاهتمام بما يمكن أن نسميه تنمية الوعي النقدي لدى الطلبة وقدرتهم على التحليل، وبالتالي انتشار الأميّة الثقافية إن جاز التعبير وصولاً الى طلبة الجامعات، التي راحت من باب إسقاط الفرض، توجيه بعض طلبتها إلى دراسة بعض الأعمال الأدبية عشوائيًا وكتابة اطروحات معينة كشرط لنيل الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه، من دون أسس علمية أو تأسيس متراكم يفترض أن يبدأ في المدارس الابتدائية والمتوسطة.
ولم يقتصر الأمر على عدم أهلية المدرّسين في هذا المضمار وحسب، بل يتجاوزه إلى انعدام الاهتمام بالمكتبات المدرسية والمكتبات العامّة واختفاء الكتاب من حياة الطلبة وفقدان تقاليد القراءة الواعية والممنهجة، بعد أن تحولت المكتبة المدرسية إلى نوع من التطلع الارستقراطي، قياسًا بالأوضاع الكارثية التي تشهدها المدارس في العراق حاليًا، ففي الوقت الذي لا يجد الطالب فيه مقعدًا أو طاولة ليكتب عليها أو دورة مياه صحية نظيفة وصالحة للاستخدام البشري، لا يمكن التفكير بطبيعة الحال بمكتبة مدرسية أو مختبر للعلوم، وهما من بديهيات الدراسة والتعليم الصحيح. لذا أتوقع أن نشهد في السنوات المقبلة أجيالاً كاملة من الخريجين الأميين الذين لا يعرفون بودلير أو شكسبير أو همنغواي، بل لا يعرفون حتى السيّاب ونازك الملائكة.

عرض مقالات: