(ودعنا قبل ايام الاديب التقدمي الراحل راسم قاسم، وكان قد ترك لنا آخر مقال كتبه وخصنا به. له السلام ولحروفه النور والبهاء)
"
المحرر"
منذ الفي عام وتحديدا منذ ميلاد السيد المسيح. انهار عالم قديم يعتمد في بنيته التركيبية على فلسفة الآلهة المتعددة، وجعل من الحكام انصاف آلهة “لكونهم من سلالة الاله المعبود آنذاك وكان هذا العالم يتميز بأخلاقيات ونظم نسجتها اساطير متوارثة بقيت على مدى قرون تتحكم بمصير الانسان، ولقد كانت ولادة السيد المسيح بداية لعهد جديد وانهيار عالم قديم، لم تستطع الديانة اليهودية ان تتغلب عليه كونها ديانة عنصرية متقوقعة على ذاتها.. ولها خصوصيات لا يمكن اشراك غير اليهود منها. لذلك ظلت هذه الديانة محصورة بطائفة اليهود. اما الديانات السائدة في اوربا فكانت هي ديانات فرعونية مطورة او معدلة، وكانت عبادة الشمس هي السائدة في روما.. الى ما بعد ظهور المسيح بأكثر من ثلاثة قرون الا ان الديانة المسيحية استطاعت ان تنتشر بسرعة من خلال دأب المسيحيين الاوائل وتفانيهم في نشر هذه الديانة ومحاولة ضم اكبر عدد من الناس تحت جناحيها لذلك فما ان حل العام 325م وفي عهد الامبراطور قسطنطين في روما حتى كان التنازع على اشده بين عبادة الشمس والديانة المسيحية ولما كان الامبراطور قسطنطين يعتبر من كبار الكهنة لهذه العبادة، قد فكر بصورة تضمن وحدة روما، لذا فقد رجح الديانة المسيحية واعتنقها ضمانا لوحدة روما، الا انه ادخل الكثير من الطقوس القديمة للديانة المسيحية منها انه اعتمد يوم العبادة هو يوم الاحد (Sunday) يوم الشمس بدلا من يوم السبت الذي كان معتمدا لدى المسيحيين.

الرغبة في انهيار العالم القديم

منذ عقود والنزاع على اوجه بين التعاليم الثابتة للمسيحية الكاثوليكية البابوية وبين حركات تحررية من السلطة البابوية، كما حصل في عهد الملك هنري الثامن في انكلترا وعصيانه السلطة البابوية في تعدد الزوجات، كما ادى الصراع الى ظهور طائفة البروتستانت على يد مارتن لوثر، الذي اختلف مع سياقات الكنيسة الثابتة وخرج على تعاليمها الصارمة.. واعتبرت هذه الحركة ثورة في وجه سلطة الفاتيكان وتمردا حادا ولقد سبقتها ايضا حركة تمرد وعصيان عندما انفصلت الكنيسة الارثوذكسية الشرقية في شرق اوربا ومصر الا ان السلطة البابوية بقيت هي السائدة على مدى قرون والمسيطرة على الساحة السياسية التي كانت تخضع خضوعا تاما للسلطة الدينية حتى حدوث الثورة الفرنسية التي استطاعت بطروحاتها ان تقلص من سيطرة الكنيسة، وان تحجم دورها وتأثيرها على طبقات كثيرة من المجتمع الاوربي ولظهور الحركات الليبرالية وبروز الطبقة المتوسطة في اوربا وانتهاء او تحجيم المجتمع الإقطاعي الديني اصبحت سيطرة الكنيسة شكلية وغير مؤثرة في الحياة السياسية.
واليوم ترتفع اصوات كثيرة في اوربا وامريكا لإلغاء ما تبقى من امتيازات دينية وتسفيه الكثير من المعتقدات الراسخة وكشف حقيقة الموروث السفسطائي المبني على الارث الإيماني المطلق بألوهية المسيح ومن بين هذه المحاولات محاولة الكنيسة الانجليكية في اوربا وامريكا التي تحاول جاهدة لرفع الحصانة الالهية عن شخصية المسيح واعادته الى وضعه البشري. والقضاء على الكثير من التصورات المتكونة عبر التاريخ والتي اختلطت فيها الميثيولوجيا القديمة بالتعاليم المسيحية.

رواية شفرة دافنشي وطروحاتها الظاهرة والخفية ..

ان الرواية لا تخرج عن محور الرواية البوليسية وتعتمد في تشويقها على الاسلوب اللغزي كما في روايات (اجاثا كريستي) التي تعتمد على فك رموز الجريمة التي يشوبها الغموض العميق، ويكون الشد من خلال فك تلك الرموز. ورواية شفرة دافنشي لدان براون تعتمد على اسلوب التشويق وتشد القارئ من اول صفحة وتمسك به، وتجره من خلال رموز وشيفرات تاريخية محيرة لكن كل ذلك الوجه البسيط والبريء لا يمكن ان ينطلي على القارئ الواعي كونها تهدف لغرض كبير بدأ يظهر على سطح التفكير الاوربي وهو هل المسيح مؤله وهل هو ابن الله وهل هو الرب، كما رسمته التعاليم المسيحية الكاثوليكية البابوية وبالتالي تحطيم هذه المفاهيم وكشف حقيقتها.
وبالتالي فهي تبني لهدف كبير هو بداية لتهديم صرح كبير سارت تحت ظلاله ملايين البشر ولعشرات القرون، واستطاعت الكنيسة بواسطة هذه التعاليم من السيطرة على كل التحركات السياسية واخضاعها لسلطتها الواسعة وأموالها الطائلة.
فهل آن الأوان لكي تظهر فكرة جديدة..
تسرد الرواية حوادث تاريخية منها (جمعية سيون الدينية التي تأسست 1099 وهي منظمة حقيقية) وتورد الرواية ان في عام 1975 اكتشفت مكتبة باريس الوطنية مخطوطات عرفت باسم الوثائق السرية. ذكرت فيها أعضاء عدة انتموا الى جمعية (سيون) الدينية ومن ضمنهم السيد (اسحق نيوتن) و(ساندرو بوتشيلي) و(فكتور هوغو) و(ليوناردو دافنشي).
وأن هناك (المجموعة الاسقفية الفاتيكانية التي تعرف باسم (ابوس داي) وهي مذهب كاثوليكي متشدد.
والصراع في الرواية يدور بين هذين التشكيليين الدينيين، فالأول الذي هو جمعية (سيون) تدعو أن كل ما ورد في التعاليم المسيحية الحاضرة هي باطلة وهي من صنع البشر وان الاناجيل لم تنزل من السماء، بل هي من وضع البشر المعاصرين للسيد المسيح وهي كتابة سيرة المسيح وتوضيح حالة المجتمع المعاصر له.. وينفون الالوهية من المسيح، ويعتبرونه بشرا مولودا من ذكر وانثى. من أب وأم وليس من امرأة عذراء، وليست له أي قدرة خارقة او أنه ابن الرب ويدعون ان هذه الحالة استمرت لمدة 300 عام بعد استشهاد المسيح على يد اليهود. لكن تنامي الصراع بين المسيحيين والوثنيين بلغ أشده في زمن الامبراطور (قسطنطين) الذي لم يكن مسيحياً والذي عمد قبل وفاته بقليل. والذي كان كاهناً من كهنة عبادة الشمس في روما. إلا أن هذا الامبراطور كان حريصا على وحدة روما بعد ان توزعتها الصراعات بين المسيحيين والوثنيين، وصعود نجم المسيحية، لذلك فقد ارتأى ان يوحد روما تحت ديانة واحدة، فقرر ان يتخذ الديانة المسيحية، ولكنه وفق بين المسيحية والوثنية وذلك من خلال ادخال الكثير من الطقوس الوثنية على الديانة المسيحية وبذلك ضمن موافقة الجميع وضمن وحدة روما وعدم تمزقها. ومن المفاهيم والطقوس التي أدخلها على المسيحية هو يوم الشمس (Sun day) بدلا من يوم السبت الذي كان معتمدا للعبادة، كما انه جعل هالة الشمس المقدسة على رؤوس المسيح وأمه والقديسين. في الصور واللوحات والأهم من ذلك كله انه جمع في فينيقية المجمع المسكوني الأول.
المسمى (بالمجمع النيقاوي) وفي هذا الاجتماع تمت مناقشة العديد من مظاهر المسيحية والتصويت عليها مثل اليوم الذي سيتم فيه الاحتفال بيوم الفصح ودور الاساقفة، وادارة الاسرار المقدسة، واخيرا وأهمها مسألة ـ الوهية المسيح ـ وحتى تلك اللحظة من تاريخ البشرية كان المسيح في نظر اتباعه نبياً فانياً، رجل عظيم ذو سلطة واسعة إلا انه كان رجلا انساناً فانياً) الرواية ص 261.
(
وبالمناسبة كان الفرق في الأصوات يكاد لا يذكر، غير أن تأكيد الوهية المسيح كان ضرورياً جدا لتوطيد الوحدة في الامبراطورية الرومانية ولإقامة السلطة الجديدة للفاتيكان، ومن خلال المصادقة الرسمية على كون المسيح ابن الرب، حول قسطنطين المسيح الى إله مترفع عن عالم البشر، كينونة تتمتع بالسلطة لا يمكن تحديثها ابدا. وهذا أمر لم يعمل على وضع حد لتحديات الوثنيين للمسيحية، بل بسبب ذلك لن يتمكن اتباع المسيح الآن من التحرر من الخطايا الا بواسطة طريق مقدسة جديدة هي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ص262.
(
ان المسألة كلها كانت مسألة سلطة ونفوذ لا أكثر، ان المسيح كمخلص كان ضرورياً لتفعيل وظيفة الكنيسة والدولة، ويدعي الكثير من الباحثين ان الكنيسة الأولى قامت بسرقة المسيح حرفياً من اتباعه الاصليين وذلك بمصادرة رسالته الانسانية ودفنها في عبادة لا يمكن اختراقها من الالوهية الكاذبة التي استغلوها لتوسيع نفوذهم) (ص262).
(
لقد كانت هناك الآلاف من الوثائق التي قد سجلت حياته على انها حياة انسان فان، ولقد عرف قسطنطين انه لكي يتمكن من إعادة التاريخ كان بحاجة الى ضربة جريئة، ومن هنا ولدت أهم لحظة في التاريخ المسيحي فقد أمر قسطنطين بإنجيل جديد وقام بتمويله وأبطل كل الاناجيل التي تحدثت عن السمات الانسانية للمسيح وزين تلك التي اظهرت المسيح بصفات الهية وحرمت الاناجيل الاولى وتم جمعها وحرقها) (ص262).
ولقد اتهمت الكنيسة كل من يهتم بالأناجيل الأخرى بالهرطقة وتعني (الاختيار).
وتتناول الرواية ان بعض تلك الأناجيل القديمة قد تم اخفاؤها.
ولقد تم العثور على وثائق البحر الميت عام 1950 مخبأة في كهف بالقرب من قمران في صحراء النقب كما عثر على الوثائق القبطية عام 1945 عند واحة حمادي، وقد تحدثت تلك الوثائق عن كهنوت المسيح بمصطلحات انسانية تماما، بالاضافة انها روت قصة (الغريل) الحقيقية ص263. ولقد حاول الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية غمط الحقيقة وتضليل البشر، لأن هذه الوثائق تؤيد ان الانجيل الحديث قد الفه بشر ذوو أهداف سياسية تتجلى بنشر أكاذيب حول الوهية الانسان يسوع المسيح، واستخدام تأثيره لدعم قاعدة سلطتهم ونفوذهم، كما تورد الرواية.

شفرة دافنشي (الكأس المقدسة)

في لوحة دافنشي الجدارية المرسومة على جدار كنيسة سانتا ماريا في ميلانو يكمن السر.. ففي هذه اللوحة التي توضح المسيح مع حواريه الاثني عشر وأمامهم كؤوس بسيطة. أن الجالس الى يمين المسيح هو امرأة تشكل مع جلوس المسيح رمز الكأس المقدسة (7) وهو ايضا رمز الانوثة ـ والمرأة هي مريم المجدلية، والتي تصور الوثائق المخبأة والمحارية من قبل الفاتيكان، انها زوجة المسيح وليست بغي كما تصورها الروايات الكاثوليكية، وأنها من عائلة بنيامين الملكية، وأنها كانت حاملا عند اعدام المسيح، ولقد هربت بمولودها خوفا من القضاء عليه الى فرنسا التي كانت تسمى آنذاك بلاد الغال، وعاشت تحت رعاية فرسان الهيكل الذين حافظوا عليها حتى انجبت طفلة المسيح سارة. كل هذا يتنافى مع طروحات الكنيسة البابوية العريقة التي كما قلنا الهت المسيح وجعلت منه ابن الرب وتستمر الرواية بالقول (ان مثرا آلهة الفرس كان أيضا مؤلها ولقد قام من موته بعد ثلاثة أيام ولقد لقب بابن الرب وقد ولد في 25 كانون الأول، وقد سبق المسيح بعدة قرون) ص156.
وتذهب الرواية الى ان الكأس المقدسة هي ليست الكأس التي تناول فيها المسيح نبيذه في العشاء الأخير، وإنما هي المرأة المقدسة زوجة المسيح مريم المجدلية وقد رمزوا إليها بالكأس لأنه يشبه رحم المرأة حيث يمثل الرمز 7 الأنوثة والخصوبة ويمثل 8 الذكورة. وقد سمي (بالغريل) وهو رمز قديم للأنوثة والكأس المقدسة، والالهة الانثى ولقد ضاع هذا المعنى كما تورد الرواية ويشكل عملي على يد الكنيسة وكان هذا الرمز يهدد قيام الكنيسة التي سيطرت عليها السلطة الذكورية، ولقد الصقت الصفات الشيطانية بالأنثى المقدسة وشوهت سمعتها، ولقد حاولت الكنيسة انهاء هذه المشكلة في القرون الوسطى وذلك انها قامت بإحراق أكثر من خمسين ألف امرأة ضناً منها انها ستحرق نسل المسيح.
(
إن الكأس هي رمز الآلهة الضائعة فعندما جاءت المسيحية لم تمت الأديان الوثنية بسهولة، وأساطير بحث الفرسان عن الكأس المقدسة أو الفرسان الذين كانوا يدعون انهم يبحثون عن الكأس المقدسة.
كانوا يتحدثون بشيفرة خاصة وبذلك يحمون أنفسهم من الكنيسة التي عادت النساء الالهة وحرقت الملحدين ومنعت الوثنيين من عبادة الانثى) ص268.
اذن فالغريل هو امرأة وأي امرأة، أنها تحمل سراً خطيراً قد يهدم أساس الكنيسة المسيحية في حال تم كشفه واذاعته على الملأ.
انها مريم المجدلية في لوحة دافنشي. وكلنا كنا نتصور ان الجالسين هم من الرجال، ولقد بقي العالم يتصور ان الجالسين الستة على يمين المسيح والستة الذين على يساره هم من الرجال، لكن السر يكمن في أن دافنشي جعل الشخص الذي يجلس على يمينه امرأة وهي مريم المجدلية.

اين تكمن المعضلة اللغز؟

من هنا يأتي دور فرسان الهيكل الذين جندوا انفسهم للحفاظ على الوثائق التي وجدوها مخبأة، والتي تثبت ان المسيح كان متزوجا (لأن العرف الاجتماعي في عصر المسيح كان يحرم تماماً على الرجل اليهودي ان يكون عازباً، والمسيح كان يهودياً ومن سلالة داود، والامتناع عن الزواج كان ذنبا يعاقب عليه بحسب العقيدة اليهودية، ولو كان المسيح أعزباً لكان ذكر ذلك في أحد الاناجيل) ص275.هذا هو محور الرواية التي استقطبت القارئ الاوربي، لأنها بمجملها تكشف عن سر سيقوض دعائم ايمانية دامت عشرات القرون ويزلزل معتقدات راسخة ويؤثر في صياغة جديدة للتاريخ، ولكننا نرى ان هناك صراعاً خفياً بين اليهودية والمسيحية، تحاول فيها اليهودية تقويض الديانة المسيحية وبالتالي تفكيك الصرح المسيحي، والغاء الروابط الوثيقة التي تشده لبعضه على مدى التاريخ..
ولا ندري مدى صحة هذه المعلومات الخطيرة، علما ان الكاتب قد أكد في روايته ان كل الوثائق والأسرار هي حقيقة ثابتة لا لبس فيها، فهل هي بداية لدعوة لانهيار العالم القديم من الايمان المتوارث، ستعقبه ثورة تلغي كل القيود والروابط الدينية المسيحية سيما ونحن قد انتهينا من برج الحوت، ونحن الآن ندخل في الالفية الثالثة وبداية برج الدلو الذي يفيض بالماء وكشف الاسرار كما تقول الرواية واليوم تحاول جمعية سيون التي هي محور الرواية كونها جمعية أو أخوية تدعي المحافظة على اسرار ووثائق وتخفيها من بطش الكنيسة البابوية في اماكن سرية حتى يتم الكشف عنها في الوقت المناسب.
والاسرار هي جثمان مريم المجدلية ووثائق واناجيل وسلالة المسيح وذريته.
تبقى الرواية بطرحها الغريب وأسلوبها المشوق رواية تحظى باهتمام القارئ، ولا غرابة إذا قيل ان عشرين مليـــــون نسخة قد بيعت منها وترجمت الى أكثر من عشرين لغة.

عرض مقالات: