بقدر ما تمكنت ثقافة العنف من ضخ غزير نتاجها الذي أسهم في استمرار النظام الفاشي في العراق وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود إلا أن الرد الشجاع الفاضح لهذه الثقافة السوداء كان وعلى نزرته مساهما في هدم أركانها وشلها، تلك الأركان التي ارساها جيش من المرتزقة والمتملقين لهذا النظام لاسيما الحقبة التي استولى بها صدام حسين على كل مقاليد السلطة وراح يزج العراق في متاهات حروب وحصارات انتهت به لما نحن عليه اليوم، وهذا الكتاب هو واحد من المصادر النادرة لما حصل في مسيرة شعر العامية العراقية، ولست مبالغا أن قلت بأنه من أهم الكتب التي تناولت هذا اللون الإبداعي أو (الجناح الناشط في الشعرية العراقية) حسب وصف الشاعر الراحل علي الشباني.الا انه واجه مشكلات كبيرة في مقدمتها صدوره قبل سقوط النظام بعام واحد عن دار الحرف العربي في السويد ووصوله تهريبا الى العراق فكان لمكتبة ودار نشر عدنان ايام كان يديرها صاحبها الشهيد عدنان الفضل في طباعة نسخ محدودة منه لن تتجاوز(١٥٠) نسخة وقد تم تلاقفها بنوع من المغامرة إذ عد من الكتب الممنوعة وقتها إلا أن طبعة ثانية صدرت منه عن (دار ميزوباتاميا) في عام 2011 بواقع الف نسخة ومع ذلك بقي غير موفقا من حيث الانتشار برغم أهميته.

تصدرت الكتاب مقولة الإمام علي بن أبي طالب ( لايستوحشك طريق الحق من قلة سالكيه) في إشارة الى مكاشفات الصريحة التي اعتمدها المؤلف والتي ازعجت العديد من الأسماء البارزة كما هو الحال الذي حصل مع كتاب سلام عبود ( ثقافة العنف في العراق ) الذي احدث ضجة كبيرة في وسط الثقافة وتسبب في ازعاج بعض من اعتقدوا انفسهم أصحاب وصاية وأبوة على الثقافة العراقية بعد أن جوبهوا بما ارتكبوه من إثم بحق الثقافة نفسها.

الأهمية والأشكال

يشير المؤلف في بداية كتابه القيّم هذا إلى تلك الأهمية التاريخية التي امتاز بها هذا اللون الإبداعي بدلالة المصادر التاريخية المهمة الممتدة لحضارات وآداب رافدينية ضاربة في قدمها فضلا عن إشكالات اللهجات العربية التي كتبت هذا اللون وما امتازت به اللهجة العراقية التي استمدت معظم مفرداتها من القاموس السومري مشيرا لما جاء في إحدى مصادره (ديوان الأساطير) لقاسم الشواف. تناول المؤلف بشيء من الدقة والموضوعية اشكال القصيدة الأولى والتي بلغت (14) شكلا تبدأ بالموال وتنتهي بالهوسة وهي أشكال معروفة المتداولة شفاهيا وكتاببا وغنائيا لاسيما الموال وجذوره واختلاف مسمياته معززا تناوله بنماذج انتخبتها ذائقته كباحث وشاعر.

التجديد والريادة

يشير المؤلف وبوضوح الى حركة التجديد في شعر العامية العراقية كمتغير ابداعي تحقق على يد الشاعر الكبير مظفر النواب الذي خلصها من غبار المضامين وأتربة الأشكال التقليدية والتي جاءت متزامنة مع حركة التجديد في شعر الفصحى على يد السياب ونازك الملائكة كما يعزو ضمن مجمل وقائع الزمن الأسباب السياسية ممثلة بنهضة اليسار عراقيا وعربيا وعالميا التي شهدتها بلدان العالم الثالث وانعكاسات النهضة الثقافية التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين وقد تخلل الفصل الخاص بالريادة نماذج شعرية من قصائد النواب مدعمة بآراء وانطباعات للشاعر مأخوذة من حوارات عديدة معه تناولت أهمية اللهجة ورأيه بالحداثة كمفهوم شعري. يتطرق المؤلف الى جيل الريادة بوصفه امتدادا لما خلفته تجربة النواب من خلال تجارب شعرية مهمة ممثلة بطارق ياسين، علي الشباني، عزيز السماوي، كاظم الركابي، عريان السيد خلف، زهير الدجيلي، ابو سرحان معززا ذلك بنماذج لبعض أشعارهم وخصائص تجاربهم كتلك المدينية التي امتاز بها طارق ياسين والغنائية لأبي سرحان، ولا أدري لماذا اغفل المؤلف تجربة كريم محمد حمزة الريادية المهمة ولربما كانت هذه واحدة من استحقاقات المنفى واشكالاته مع الذاكرة، كذلك عزز كتابته بآراء لمثقفين عراقيين بارزين كعواد ناصر، عبد الكريم كاصد، سلام ابراهيم، زعيم الطائي .

المنفى والموقف

لم يكن شعراء العامية العراقية بمنأى عن المنفى القسري الذي حتمت الظروف القاسية بحكم سياسة القمع في أن يكون خيرا لا مناص منه لاسيما في نهاية سبعينيات القرن الماضي التي شهدت انهيار التحالف ( الجبهة الوطنية) وما آلت اليه الظروف من اضطراب وقمع وحشي فراحت أفواج من مثقفي العراق تتدفق باتجاه عواصم شتى في مقدمتها بيروت والشام كمحطتين اوليتين تقذف بهم إلى أصقاع شتى ولعل من أبرز هؤلاء الشعراء حسب المؤلف (زاهد محمد، عزيز السماوي، ابو سرحان، رياض النعماني، جمعة الحلفي، كامل الركابي، سعد الشريفي) لقد كان الموقف المشرف لهؤلاء الشعراء ممثلا في إدانة النظام من خلال نتاجهم الإبداعي وعمل بعضهم في الإعلام كأبي سرحان وجمعة الحلفي.
ان قصيدة المنفى اكتسبت أهميتها من خلال سببين الوطني أولا إذ كانت بمنأى عن ماكنة النظام الإعلامية الأمر الذي أتاح لمعظمهم إصدار نتاجاتهم الشعرية بعيدا عن سلطة الرقيب وبرغم ضغوط المنفى تمكنوا من ادامة خطابهم الجمالي الذي شهدته بداياتهم الشعرية في وطنهم وهكذا تتنفس البصرة بزنوجها وعشارها ونخيلها حين تقرأ لكامل الركابي:
(
ثوريه... يموت إعداهه وتدوم
ياجمره عزيزه بأخر الليل
تسهر بام البروم
دفيني غدت روحي ثلج من السفر لليوم )

قصيدة الحرب والتأليه

هذا هو الفصل الأكثر حساسية وإثارة في الكتاب لما فيه من فضح وثائقي صادم لما وصلت اليه القصيدة العامية العراقية من حال لاتحسد عليه في الهبوط الفني المريع والسطحية السمجة واصطفافها لمجمل ما انتجته ثقافة العنف ولقد جرى ذلك في ظل ردح من سنوات تبعيث وعسكرة مجتمع بسائر شرائحه، ولذا كان لزاما في التوجه لهذا اللون الذي امتاز بجمالياته بغية مسخ قيمه الجوهرية واستبدالها بكل ماهو عنفي وقبيح إذ يشير المؤلف إلى بدايات الخراب بالقول:
(
وعند استلام صدام حسين السلطة بشكل رسمي في تموز ١٩٧٩ بدأت مهرجانات الشعر الشعبي تتوالى تطبيلا ومدحا ورقصا وتأليها له، فخلال المهرجانات والمنتديات الاحتفالية الأولى كان الشاعر يمنح الف دينار ومسدس، ترى لماذا المسدس ؟
انها ضراوة الذهب حسب تعبير الشاعر هاشم شفيق (حيث غبار المديح الأسود يتطاير سخامه من شدة فصاحة اللغة البائتة في تمجيد الطاغية، وفتل المزيد من خيوط التغزل في عينيه وشاربيه ويديه، انه الغزل الذكوري الذي كان يتجلى في كرنفال البذخ).
لقد كان في الايغال الواضح بمديح الطاغية ونفخه على مدى سنوات حكمه وحروبه غاية في السقوط والابتذال لاسيما وأن جثامين ضحايا مجازر النظام طرقت كل أبواب بيوت المسحوقين من أبناء الشعب إلا أن الغريب في الأمر هو وجود مهارات عالية اعتمدت صياغة ذلك المشهد الدامي وهنا يؤكد المؤلف في اشارته الواضحة بالقول (وقد كان خيرة هؤلاء بحرفيتهم التراكمية السابقة، قادرون على كتابة نص بصيغ انتهازية تثبت الولاء الواضح للولاة وامام الجمهور، هؤلاء الذين تزاحموا مع بداية حاجة النظام الملحة في زج الشعر الشعبي لتحقيق غسل الذاكرة العراقية ) المؤلف اعتمد في فصله هذا تسجيلا تلفازيا لآخر لقاء جمع هؤلاء بصدام حسين العام ٢٠٠١ وأطلقوا عليه (يوم الشعر). يبقى كتاب الصديق هداد من أبرز واشجع المراجع التي درست القصيدة العامية العراقية.

عرض مقالات: