التعادلية في اطراف القصائد الشعبية العضبية

قيل من قديم الزمان: ( إن اعذب الشعر أكذبه..).  لكن القصيدة الشعبية العضبية تحسسّتْ طريقها الأول حتى الأخير في نسف هذا القول،  حين اخرج علي العضب ، الشعر من موضع المدح و العبادة إلى موضع الإنشاد والإشادة ، مقطعاً اوصاله الى كشفين كامنين حول الانقسام الطبقي – الاجتماعي ، منحازاً انحيازاً كليا، ضد التزييف الطبقي وضد الوحشية البورجوازية  ، حاملاً إياه ، من لغة مدح الملوك و الرؤساء والفرق المذهبية والدينية الى لغة أخرى عن رؤوس  وكفاح وعظمة شعبٍ أنجبه.  لا يسوق في شعره،  أبياتاً،  بصورة مزدوجة ، إلاّ لتوعية الناس، اجمعين،  وضد الحروق الناتئة  بأجساد الشعب الكادح من الحكومات والأنظمة الحاملة علامات الدكتاتورية .

اكتشف الشاعر البصراوي (علي العضب ) طريق و طريقة التعادلية في بناء اطراف  القصيدة  العضبية   المخصوصة ، مبرهناً : (   ان اعذب الشعر هو  الصدق) . استخدم الصدق في القول  بلغة قصائده الشعبية ، عن حال معيشة الجماهير الفقيرة،  الصدق في ممارسة حرية القول ، بدون خوف من المخوفين..  الصدق في كشف وإدانة الملوك و الرؤساء والوزراء و الزعماء ، ممن يشربون انخاب اضطهاد شعوبهم.. الصدق في القول ضد أحزاب  السوبرمان الحاكمة وهي تكرر عشرات المرات اصطياد المكافحين من اجل خبز الشعب.  كان الصدق أول اطراف التعادلية العضبية.

لم يبتعث علي العضب لشعره أشكال الحوار الصامت ،  كما فعل آلاف الشعراء العراقيين ، حين كتبوا قصائدهم بأقلامهم  ليبلغوها الى آذانهم ..! انتهج علي العضب تحويل شعرهِ من خطوط على ورق الى شعلة روحية في قلوب مستمعيها، أو عقول قارئيها،     كما فعل فكتور هيغو والجواهري و مايكوفسكي  وموليير وأبو العلاء المعري و الأقلية من الشعراء النوادر.  

الشاعر علي العضب امتلك عقلية شعرية – فنية،  ناضجة و رحيبة ، عن قوانين التطور الإنساني و الأخلاقي وعن كرامة الانسان البصراوي – العراقي ،  الكادح في نيل حالة التقدم في العيش و الارتقاء بالتعاقب ، مستقبلاً ،جيلاً بعد جيل.  لم ينتظر الشاعر  العضب ان يتكرم عليه الزمان في تطوير شعره وتطوره ليضع نفسه بموضع المنصة ، الرفيعة ،العليا،  ليشد مستمعيه في سلاسل أفكاره المتقدمة .  كان علي العضب قد بلغ المنصة العليا ، منذ البداية ، منذ التصاق الفن الشعري الشعبي بأوبريت بيادر خير ، حين قال النقاد و المشاهدون التقدميون ، بعد خروجهم من قاعة الخلد :  يا للقصة الجميلة .. يا للشعر الجميل..  يا للموسيقى الجميلة.. يا للتمثيل الجميل .. يا للغناء الجميل.  كانت عيون الشعب ترصد أبناء الشعب من الفنانين الجمعيين،  المشاركين في واجبات بيادر خير،  استثناءً من فوضى فنون الغناء و الشعر بذلك الزمان .  رسم الشاعر علي العضب نظرته الخاصة  بأن اعذب الشعر هو قول الصدق ونشر رسالة الصدق و تعميم قيم الصدق.

تلك كانت أولى مواصفات النفسية الشعرية العضبية في صدق القول بالقصيد المشيّد  عن تاريخ النضال الشعبي وعن تقاليده في صدق الانسان الممتاز بتفوه ابداعه الشامل و بتمجيد صور تعظيم العمل الجماعي و التطلع الجماعي و النضال الجماعي و التضحية الجماعية .

في مدينتي،  مدينة الاجيال الإبداعية المتعاقبة من زمن الفراهيدي والجاحظ وواصل بن عطاء والاصمعي،  وجدتُ ثلاثة  أشياء تضيء كل طرفٍ من أطرافها : النخل و الماء والشعر ذي العطر الاثير.  في العصر الحديث حملتْ البصرة اضاءتين جديدتين هما النفط  و الشاعر  الشعبي علي العضب.

ربما يبدو قولي عن الإضاءة ، مجرد وصف فني لشاعر من شعراء النفط و النخيل،  لكنني اجد نفسي مضطراً ،هنا،  للتأكيد ، ان افكاري بهذه السطور ، لن تسرح ، بعيداً،  عن واقع تذوق الشعر الشعبي فأنا لست من هواة المبالغة في الأمور السياسية و الاجتماعية و الفكرية ،التي اكتب فيها و عنها. 

من خارج مدينة البصرة ،  مثلي مثل من هو في  داخلها،  اتمسك بمنظار قويم للترصد في تقدمية البصرة وأبناء مبدعين فيها،  اعتماداً على طبع المدينة ، ذاتها،  حيث الألفة بين الكلمة والابداع ، بين النثر والابداع،  بين الشعر و الابداع ، مما يجعل كل قول مبدع فيها و منها وعنها ،  ممكناً وراشداً ،  بعيداً  عن زيف المبالغة ومعاييرها .  اظل متمسكاً بمعايير الحقيقة  المغايرة لكل نوع من أنواع المغامرات بالمبالغة في ما أقوله ،هنا، او اكتبه عن الشعر العضبي ،  لأن الشاعر علي العضب ليس من ناس السوبرمان الشعري ، المتزايدين ،عددياً، في هذا العصر .. ليس شاعراً من شعراء المفردة الغامضة القابلة للتأويل و التفسير بمقدمات و تعقيبات نقدية تحاول الانسياق وراء الشطحات الخيالية لخلق مكانة لهذا الشويعر او ذاك بطرق الاخوانية الفكاهية.

هنا ، تتغلب على قلمي و على افكاري قناعة طبيعية خاصة عن واقعية الشعر العضبي..  الواقعية تلك ،  أجدها ، كما يجدها القارئ،  أيضاً،  في نماذج الشاعر البصراوي علي العضب ليست ناتجة عن التدبير و التفكير في فهم الواقع الاجتماعي ، فحسب ، بل انه احس و ادرك واقعيته في قوة التعبير الحر،  عن حياة قاسية يعيشها مواطنو و مواطنات مدينته،  منذ زمان بعيد ، كما احس واقعيته في سمو شعره الشعبي المبني على أحلام واهداف استمدها من قلوب و عقول الجماهير البصراوية الكادحة.  استمدّ فكرته من تجارب برنارد شو ومن تعاليم انطلقت من بيوت قصائد الشاعر العراقي معروف الرصافي.

لم يكن شعر الشاعر علي العضب موصوفا بالفيلسوف نيتشة و لا بالزرادشتية و لا بوصايا ابن سيرين.  هنالك في هذا  الديوان وفي مضمونات قصائد كثيرة منشورة ،  أسباب مقنعة،  جعلتني مناصراً قيم الإنسانية في القصيدة العضبية. وجدتُ  ان شاعرنا يمارس الحياة الصعبة في بلد فقير يقاتل فيه بسلاح شعري مؤرخاً  الحياة الشعبية العامة،  مدافعاً عن ظاهرة البقاء التاريخي وعن القيم الإنسانية ، حيث وجد بمدينته ، البصرة ، أسس حياة عامة متكونة من جميع المقومات الاقتصادية – الاجتماعية ، في وقتٍ حبسها حكامها بسجن السلطة المنفردة،  كي لا يمارس شعبها الحرية والديمقراطية في زمان الحرية والديمقراطية.  وجدت الشاعر علي العضب ، حراً ونشيطاً  بتحويل قصائده الى نظام للنقاش الشعري ، على وفق نظام فني وعلى اشكال منيرة من اوبريتات خصوصية مؤتلفة في جماعية الاشتراك بصناعتها الفنية ، يندفع الكثير من أبناء الشعب لتداول معانيها و نشرها بين الناس،  في نواديهم و تجمعاتهم ، حيث ادخل ثمة علاقة اوبرايتية جماعية ، قوية ، في الحياة الغنائية – الموسيقية كان راسمها الأول و ناسج قماشها الشاعر الرمز علي العضب ،متمكناً  من تحويل الارستقراطية الاوبراتية الى فن من فنون   الاحتفالية الجمعية ، مفنداً خرافة ان العمال والفلاحين ليس بينهم عباقرة وفنانين ، متجاوزا جميع المغامرات القائلة بعدم إمكانية تجاوز فن الارستقراطيين بفنون شعبية عن طبقتي العمال  الفلاحين الكادحتين.

لم يكن شعر الشاعر علي العضب موصوفا بالفيلسوف نيتشة ولا بالزرادشتية ولا بوصايا ابن سيرين، (لكن الشاعر علي العضب استطاع ان يكون الانسان علي العضب). أراد هذا الشاعر ان يكون متحداً مع نفسه ليقدم صوراً فنية ، متدرجة في بساتين البصرة و صحاراها وشواطئ انهارها ، بضرورات مواجهة الاخلاق العامة في شرائع اهل اهوارها الخمسة ، النافذة الصبر،  من عدوان حكامها عليها.  تدرجت اشعار العضبية الشعبية ممهدةً السبيل الى انبثاق نظرات عامة عن المسرحية الشعبية – الغنائية في صنف الاوبريت،  المتفوق فكرياً و عقلياً و فنياً على جسد المسرح و منصته ، لينجب سلالة اوبريتية ، تتضمنها صفحات كتابه الذي يصدر بمناسبة الذكرى الخمسين لعرض (اوبريت بيادر خير)  باللجوء الى تعادلية 14 نصا اوبرالياً في كشف أسباب تقطّب حواجب الكادحين من ناس البصرة محللا كلماته عن نضالهم من اجل الخلاص من ظلمة لياليهم. 

ارتقت قصائده الشعبية في هذا الديوان – المجموعة ، بمفرداتها و صورها، لترتقي جميع اطراف التعادلية في القصيدة الشعبية العضبية  الحديثة،  معبرةً عن شعب النهرين الخالدين وخلوده منذ سبعة الاف سنة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 10 – 4 – 2019

 

عرض مقالات: