"تعلّمنا أن لا نرفعَ أعينَنا وأن نتحركَ داخل البيت كأشباح منفصلة متوجهين إلى الأماكن المخصصة لنا. تعلمنا أن نتحملَ التهديد والضرب أحيانا ونبلعَ الألم." هكذا يروي لنا الطفل "مِتْن"، الشخصية الرئيسة، في الرواية الموسومة "كُنْ لا مرئيا" للكاتب الهولندي من أصول تركية "مورات إسيك"،صيرورة طفولته في أحد أحياء أمستردام، حي "بايْلْمْر". لقد وصل مِتْن ووالدته وأخته من تركيا إلى أمستردام عام 1983 بعد أن رفضت ألمانيا طلب اللجوء السياسي لأبيه الشيوعي الذي نجا من بطش الحكومة آنذاك في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
هذه الرواية، التي صدرت عام 2017 عن دار أمبو - أنتوس، حازت عدة جوائز من بينها أهم جائزة هولندية وهي "جائزة ليبرس الأدبية"، والتي قال في حقها، رئيس لجنة التحكيم الكاتب والروائي الهولندي من أصول مغربية عبدالقادر بنعلي، بأن مورات إسيك يجذبك من أول صفحة، إلى عمق الحكاية، بواسطة سلطة بديهية لكاتب موهوب، استطاع أن يخلق عالما، يعرفه القارئ من خلال مقالات الجرائد والدراسات الاجتماعية، فمنحه مكانة في رواية كونية ذي عمق إنساني. ورغم الثيمة الحساسة التي تناولها الكاتب، فإنه عرف كيف يروي لنا قصة مهمة وجدية، بطريقة راقية وفي الوقت نفسه مرحة وإيجابية، حول عائلة وجدت مأوى في تاريخنا الحديث.
فلنبدأ بأول عتبة لهذه الرواية، عنوانها "كُنْ لا مرئيا"، للكاتب مورات إسيك. فهذه العتبة لها مدلولات متعددة وتعتبر الخيط الأحمر الذي يتخلّل هذه الرواية ومنها يمكننا الولوج إلى النص السردي. فهذه الجملة الفعلية: "كُنْ لا مرئيا" تضعنا أمام سؤال عن سبب استعمال فعل أمر ناقص، اسمه ضمير مستتر تقديره أنت وخبره منفي. يبدو أن الهدف هو تحذير على الأكثر. ومِن مَن؟ أو مِن أيّ شيء؟
بنية النص السردي
ففي597 صفحة، قدم لنا إسيك رواية تتكون من ثلاثة أجزاء بمائة وإثنين فصلا مرقما. يشمل الجزء الأول اثنين وأربعين فصلا والجزء الثاني أربعين والثالث والأخير عشرين فصلا. ما أعجبني أكثر في هذه الرواية بالإضافة إلى الثيمة المتداولة فيها هو أن كل فصل هو حكاية بحد ذاتها، تتمتع ببداية وحبكة ونهاية دون المساس بكرونولوجية سرد الرواية. وهذا يوفر متعة للقارئ الذي يتماهى مع كل حكاية على حدة ومع القصة بشكل عام.
لا يعتبر الراوي- الطفل"مِتْن" نفسه تركيا بل زازائيا. هذا ما كان يسمعه دائما من أبيه الذي يكرّر أنه شيوعي وزازائي. فعائلة متن تنتمي إلى مجموعة عرقية إيرانية تتواجد في تركيا. تعتنق الإسلام وتنقسم ما بين المذهبين السني والعلوي. لها لغتها وثقافتها الخاصة بها. كانت تنعم بالاستقلال الذاتي إلى أن انتزعه منها وبالقوة الجيش التركي عام 1936. الغريب أن لا يوجد تدوين للتراث الثقافي الزازائي. ففي عام 1850، كان عالم اللغات بيتر ليخ Peter Leich هو أول من جمع وثائق مكتوبة عن المكوّن الزازائي. وتوجد أيضا وثيقتان دينيتان، الأولى موسومة "المولد"، مؤرخة عام 1899، لأحمد كساسي، والثانية لعثمان افييو بابيك، نشرت بدمشق بالحروف العربية عام 1933. ويتراوح عدد هذه المجموعة العرقية بين اثنين وثلاثة ملايين، يتواجدون بمنطقة الاناضول بتركيا ومشتتون بين هولندا وفرنسا وبلجيكا والسويد وأستراليا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
فروايتنا تشمل ثلاثة أجزاء. وتصنف تحت رواية "التشكيل" Bildungsroman باللغة الألمانية، أو بما يسمى باللغة الإنجليزية Coming of Age. وهو جنس أدبي تمتد جذوره إلى القرن الثامن عشر. يهتم هذا الجنس الأدبي بصيرورة تكوين شخصية المراهق الذكر فقط. مدلوله (سيمانتيك) هو صراع البطل بين طموحه و ضغط الواقع عليه، وشكله (سانتكسيس) يتميز بنمو مكونات الشخصية باتجاه النضج والتوازن بين الطموحات الذاتية وما ينتظره المجتمع من الشخصية الرئيسة.
إن مفهومBildung ينتمي إلى الفضاء الدلالي الألماني بامتياز، بحسب دنيس بيرمو. فجدر هذه الكلمة،Bild ، وتعني بالألماني الصورة التي تُقدم صيرورة تكوين الشخصية الرئيسة، وذلك من الخاص إلى الكوني من خلال حركة اكتشاف العالم واكتشاف الذات. لقد استعمل الأستاذ الأكاديمي كارل فون مورغسترن Morgenstern ، في مؤتمر، لأول مرة عام 1820، مفهوم Bildungsroman ، وذلك لدراسة الرواية الشهيرة الموسومة "تعليم فلهلم مايسترس"Wilhelm Meisters Lehrjahre"-" ليوهان غوته (96|1795).
هكذا يحكي لنا الراوي - الطفل "مِتْن"، ذو الخمس سنوات، قصته ومجرى حيواته بالضمير المتكلم "أنا". يخص، الجزء الأول من الرواية، وصوله مع عائلته إلى هولندا عام 1983 وبالتحديد إلى حي "بايلمر" وينتهي عند أحداث العطلة الصيفية التي تسبق دخوله المدرسي للمتوسطة.
أما الجزء الثاني، فيبدأ من السنة الأولى بالمتوسطة إلى نهاية التعليم الثانوي الذي يمتد على مدار ستة أعوام. ويروي لنا "مِتْن" عن حياته الجديدة وعن عمل أمه بدائرة البريد بعد تعلّمها اللغة الهولندية وكذلك قرار والده أن يتابع دراسته في كلية العلوم الاجتماعية. ويطلعنا أيضا على الحادث المروع وهو ارتطام طيارة بوينك 747 بأحد عمارات حي "بايلمر"، في أكتوبر 1992، والذي راح ضحيته عدد كبير من سكان الحي بالإضافة إلى خسائر مادية جسيمة.
اجتاز "متن"، في الجزء الثالث، امتحان البكالوريا والتحق بكلية الحقوق بمدينة روتردام وبعدها بجامعة فرانسيسكو. في تلك الفترة تخرج والده من الجامعة وعمل، مشرفا اجتماعيا، لمدة سنة واحدة ولم يمدّد عقد عمله وعاد إلى تذمره.
الاغتراب المزدوج
لم يكتب الكاتب مورات إسيك سيرة ذاتية قحة، لكن، مع هذا، هناك أوجه تشابه كثيرة بين حياة الكاتب والراوي –الشخصية الرئيسة "مِتْن". فكلاهما من أصل تركي - زازائي وأمهما امرأة قوية مكافحة وأبوهما شيوعي، وسبق أن قطنوا حي "بايلمر" في ثمانينيات القرن الماضي.
يحط الراوي- الطفل "مِتْن موتلو"، ذو الخمس سنوات، وعائلته الرحال، عام 1983، بمدينة أمستردام، عاصمة هولندا، لكي يستقرون بأحد أحياء أمستردام، حي بايلمر. هذا الأخير بُني في أواخر ستينيات القرن الماضي ليكون حيّا راقيا، ببنائه الحديث ووفرة الخضرة والتمتع بالهدوء دون ضجيج محركات السيارات الممنوعة من دخوله. كما أن أسعار الإيجار بحي بايلمر كانت جدا عالية. لكن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي شهد هذا الحي تدهورا وإهمالا كبيرين.
عاش الراوي - الطفل متن، في هذا الحي المُهمل. كانت طفولته في المدرسة الابتدائية روتينية كأي طفل من أب وأم من أصول أخرى، غير هولندية. يركز المدرسون على تعليم اللغة الهولندية، كونها اللغة الثانية للطفل، ولأن والديه ينتميان إلى الطبقة العمالية، ومستواهما التعليمي واللغوي لا يُمكّنهما من مساعدة طفلهما لحل واجباته المدرسية. مع هذا كان "مِتْن" يحظى بتقدير وتشجيع أحد معلميه، بالمدرسة الابتدائية، خصوصا في درس الإنشاء. لكن سرعان ما تبدأ مرحلة جديدة في حياة "مِتْن" خلال الصف الثامن، آخر سنة دراسية بالمرحلة الابتدائية. فمعلمة "مِتْن" هذه، تكتب تقريرا يخوّله الانتقال إلى المرحلة الثانوية، وتوجّهه إلى مستوى دراسي أقلّ من معدلاته. وهنا يبدأ مشوار مواجهة الأحكام المسبقة، فيما يخص إمكانية أطفال المهاجرين، التي تحدد مستقبلهم في أخر صف بالمدرسة الابتدائية. لكن والد متن ،هارون، لم يستسلم، كما يفعل عدد كبير من الآباء هنا بهولندا، مقتنعين أن المدرسة تقدر إمكانيات التلميذ وتفهم أكثر منهم أو لعجزهم، أحيانا، الدفاع عن مستقبل أولادهم وأحيانا أخرى تكون اللغة حاجزا عن التعبير عن رفضهم لقرار المدرسة. لكن هارون وبلغته الضعيفة، استطاع بإصراره أن يقنع مدير مدرسة المتوسطة بأن يسجل ابنه "مِتْن" في أعلى مستوى دراسي؛ وهو "التمهيدي للتعليم العلمي" VWO. فالمعاناة لم تنته عند هذا الحد؛ مِتْن أتى من حي بايلمر الفقير، الذي تتكدس فيه جاليات مختلفة، تعاني من البطالة والتهميش ويتجمع فيه صعاليك السرقة والإجرام والمتاجرة بالمخدرات واستعمالها، لينتقل إلى ثانوية تقع في حي راق إلى حد ما. فكان الوسط الاجتماعي لطلاب الثانوية مختلفا تماما عن الوسط الذي يعيش فيه مِتْن. أحس هذا الأخير بالفروق الاجتماعية ومعاملة المدرسين وإهمالهم له. فقرّر أن ينكمش على نفسه وأن يكون لا مرئيا؛ بجلوسه مثلا في آخر الصف والاختفاء وراء ظهر الطالب الجالس أمامه. فمن بين الأشياء التي كان يراقبها من بعيد، أحذية الطلاب التي كان يتمنى أن يحصل عليها يوما. فبالرغم من اختياره العيش بسلام، فزملاؤه لم يتركوه في حاله. كانوا ينادونه بالمنظّف. وجرت العادة، أن المهاجرين يعملون غالبا في شركات التنظيف. وقد كان قرار انكماش"مِتْن" واضحا في الفقرة الاستهلالية لهذه الرواية؛ حيث يقول:"وجب علينا أن نتحلى بالصبر، قلت لنفسي، وجب علينا أن نصبر وأن نجابه ما يحدث لنا. التحايل عن الألم لم يكن له معنى، لا مفر. فإذا طفح الكيل فإننا نصبح لا مرئيين". هذا هو خلاصة الوضع السياسي والاجتماعي الذي كان يطبع حياة عائلة هارون موتلو سواء في بلدهم الأم، تركيا، أو في بلدان الغربة المستقبِلة.
هاورن موتلو، والد متن، شيوعي ومثقف. يقرأ كتب فيودور دوتستويفسكي وتشيخوف وليف تولستوي وماركس ولينين. فر من بطش النظام التركي في ثمانينيات القرن الماضي. ينتمي إلى أقلية تركية – زازائية مهددة بالانصهار الإجباري من قبل النظام التركي. كان هارون يعاني من التهميش السياسي والثقافي والاجتماعي ببلده تركيا ووقع بلجوئه إلى بلاد الغربة في كماشة تهميش آخر. كان يرفض العمل مدعيا أنه لا يريد أن يخدم النظام الرأسمالي. بالإضافة إلى أن العمل الحزبي أصبح أيضا أكثر تعقيدا في الخارج. فوضع هارون النفسي جعله زوجا مزعجا لشريكته "أسينا" وأبا مفزعا لمِتْن وأخته الكبرى نِفْرا. كانوا يتجنبونه بالبيت. لم يكن يهتم بعائلته ويقضي ساعات في تصفيف شعره والاهتمام بهندامه. لا يهتم بشعورهم ويكرّر أنه ليس أبا كلاسيكيا وأنه شيوعي. ويقصد أن قضيته أكبر من أن يعير اهتمامه لأشياء أخرى. فبالرغم من ثقافته وقراءاته الكثيرة فإنه رجل بطريركيا أبيسي الثقافة. وينعكس ذلك على عائلته، فإنه مزاجي لا يعرفون متى ينفجر غضبا، كما أنه لا يستطيع أن يسيطر على أعصابه وأن يستوعب معاناة نفسه وإخفاقاتها. لقد عانت هذه العائلة من التخفي بوطنهم تركيا واضطروا لثلاث سنوات أن يتنقلوا من بيت إلى أخر لعدم حصول هارون على اللجوء السياسي بألمانيا مما جعلهم يلجؤون إلى هولندا. فأن يعيشوا كأناس لا مرئيين أصبح ذلك جزءا من أسلوب حياتهم.
هذا الأسلوب اتبعه مِتْن أيضا في مرحلة المدرسة الثانوية. فتنمّر الطلاب وتصغيرهم له جعلته يعاني كثيرا. وبالرغم من ذلك لم يتوقف عن المثابرة في دراسته. ففي اليوم الذي دخل طالب جديد، طويل القامة، إلى الصف وقدمه المدير إلى الطلاب، تغيرت بعض المعادلات. جلس بجانب مِتْن وقدم نفسه له: "أنا تركي الأصل". لم يستطيع هذه المرة أن يخبره بأنه زازائي، أخفى انتماءه واكتفى بذكر هويته التركية فقط.
إن الرواية مقنعة؛ لأن إسيك عرف كيف يقدم شخصياته. فمِتْن ينظر إلى عالمه بتفهم كبير وبإيجابية، رغم كل الصعوبات التي واجهته. يتقمص شخصيته عاطفيا ويتماها معها. يبدو أن مِتْن يتوفر على إمكانية "تراجيدية"، فهو يستطيع أن يغفر لأبيه ويقدّره ولو ليوم واحد في السنة وهي ليلة رأس السنة الجديدة، التي حاول خلالها أن يكون لطيفا مع عائلته. وكان هذا اليوم يوما جميلا وناجحا. ولم ينس،أيضا، يوم عيد ملكة هولندا. ففي هذا اليوم، يبيع الأطفال الألعاب والملابس التي يستغنون عنها بأسعار رمزية جدا. ويتمتع الناس بشراء مأكولات وقضاء وقت جميل. وعائلة مِتْن شاركت أيضا بتحضير الكباب الطازج وبيعه بكمية كبيرة. كما أنه بالرغم من الإحساس بالتضييق على حريته، أثناء وجود أبيه داخل البيت،فإن مِتْن يقتنص أي فرصة للهروب من واقعه، وذلك بخلق عالم خيالي بمجرد استنشاق الروائح العطرة لصابون الحمام الذي تستعمله أخته ويصف ذلك بجمل شعرية جميلة جدا.
هذه هي رواية تشكيل الفتى "مِتْن"، الذي عاش بين أكثر من ثقافة وكان عليه أن يندمج في المجتمع، وأن يبرهن على تمكّنه وأن يعمل جاهدا للوصول إلى هدفه وهو إكمال دراسته وأن يصبح مواطنا صالحا يخدم بلده الثاني بنجاح. فوجب عليه أن يتكبّد ظروفا صعبة وعراقيل وأحكام اجتماعية مُسبقة كادت أن تقضي على طموحاته. لكن بوجود والدته ودعمها له استطاع أن يضاعف جهده لإرضائها وفي الوقت ذاته إرضاء نفسه بإكمال دراسته وعدم الانحراف، الذي غالبا ما يحدث كردّة فعل لتراكم الإحباطات والفشل في تحقيق الأمنيات من خلال الفرص الشحيحة. لقد كانت حياة صراع من أجل البقاء على كل الأصعدة. لكنه مع ذلك نجح في حياته وحقق أحلامه وجعل والدته، بالأخص، تفتخر بما وصل إليه؛ مواطن هولندي ناجح وقدوة لتلاميذ من أصول أخرى.
ونخلص، أنّ رواية التشكيل هاته، "كُنْ لا مرئيا"، تؤكد أن هوية مِتْن لا تُتحدّد بعنصر واحد، وأنها تعبّر عن صوت أدبي قيّم في خضم نقاشات الهوية في وقتنا الحالي.