كتابة الشعر عموما تفترض القدرة على التعبير عن الموضوعات التي تكتب بها مقدرة عالية من التركيز واتساع الرؤيا والتمكن من اللغة باعتبارها أداة التوصيل عبر فهم تراكيبها ومخرجاتها من أجل خلق تفاعل حسي مع المتلقي ابتداء وتاويلي لاحقا وهنا تتبدى قدرة الشاعر على خلق التأثير المطلوب بالمتلقي عبر الصور والتركيب اللغوية والايجاز في كافة الاغراض التي يكتب فيها الشعر ولايشتط عن ذلك شعر المراثي لأنه يعد تعبيراً حقيقياً عن الفقدان مع انه يرتبط أساسا بدرجة قرب او بعد الشاعر من الشخص المرثي لان هنالك العشرات من قصائد الرثاء تكتب للمجاملة احيانا او كما يقول المثل (حشر مع الناس عيد) خصوصا على صفحات التواصل الاجتماعي فيهب الجميع لرثاء شخص ما بمجانية شديدة ودون أدنى معرفة فيه.
محمد فاضل العبودي شاعر شاب يمتلك الكثير من المقدرة والبراعة في كتاباته وهو مشروع لشاعر واعد ينبئ بالكثير مستقبلا بين شعراء جيله من الشعراء الشباب الذين تتباين تجاربهم من شاعر لآخر ولقد اخذت تجربته بالتطور والتميز شيئا فشيئا بالكثير من الإنجاز والقليل من الصخب/الصخب الذي يلازم تجارب الشباب عادة في البدايات الأولى ولعل قربة من الراحل الكبير عريان السيد خلف كان من أهم المحفزات لتطوره واجتياز عثرات الكتابة الأولى لكنه سرعان ما اصطدم بفقدان محافظه ومعلمه برحيل قدري مؤلم ما ادى إلى تفجر مكامن الحزن في ذاته ليعيش فداحة الفقدان، ذلك الحدث الذي سيواكبه طويلا ويلقي بظلاله على تجربته في الكتابة شاء ام أبى لأنه سيبقى ساكنا في لاشعوره مهما امتدت به الايام.
تلك هي لحظة انسحاق كلي يعيشها الشاعر/الإنسان وهو يتمعن واقعة الغياب الجمعي التي تمثل حتمية الموت التي تقع خارج حدود الاستيعاب والتي جعلته يتملص من لحظة الحقيقة وأعني الموت محاولا التخلي عن إدراكه لتلك اللحظة/لحظةالغياب الأبدي التي تبقى تدور كعجلة كبيرة تسحق كل ما يقع في طريقها فيبوح بمرارة فيها الكثير من الاستسلام للواقع:
(احس مدري اشخلص بيه !
شجاها الدنيه مو هيه ؟!)
ها هي المرئيات تتحول أمام ناظريه إلى محض سراب في سديم طويل متصل إلى ما لا نهاية ولربما هي لحظة الفقدان المفجع الاول في حياته شعريا وانسانيا فيشعر بصوت تحطم ودوي هائل لا يسمعه الا هو عبر تغير دنياه وإلى الابد
(مسافر وين ؟!
اخذني وياك ؟)
ليكون سؤاله فارغا وبلامعنى في لحظة الانسحاق الكلي تلك لأنه متيقن من ذلك السفر واستحالة ذهابه مع من يحب والإجابة هنا ستكون ضرب من العبث وهو يعني ذلك تماما، لكنها ستكون نوعا من تسكين عذاب الأنا الدائرة في فلك ويقينية الفقدان
تشكل الأبوة الروحية داعما للانسان المبدع الخلاق وهي ليست بديلا عن الأبوة البايولوجية مطلقا بل تسير معها بخط متواز مكملة الواحدة الأخرى وعملية فقدان إحداهما قدريا تحدث فجوة في الذات تمتد طويلا ولا يمكن تعويضها باي حال من الاحوال من هنا كانت فجيعة الشاعر كبيرة كون ابوة الفقيد الراحل مزدوجة فهى ابوة أدبية وفكرية في ذات الوقت
(چثير التاركه ابروحي
انه بجفك صعدت الفوك لسفوحي
كدتني براية المنجل
ودروب الشمس دليتها بروحي) والشاعر هنا يعترف بوعي بتلك الأبوة الروحية التي سيبقى يجرفه الحنين لها طوال حياته شعريا/ فكريا/ وإنسانياً وستبقى تظهر في حياته لاحقا بوعي او دون وعي منه بما حفرته من اخاديد في روحه الطرية لما ستشكله تلك الابوة من دافع للاستمرار على تلك الأصعدة المذكورة في حياته لاحقا.
ومع أن الشاعر ابتدأ نصة بمسلمة انتهاء تلك الصلة التي لم يظن يوما بأنها ستنفصل على هذا النحو لكنها المرارة التي تنطلق عنه
(سفرة موت وعيونك جزن لبعيد
سفرة موت وامشابك وداع نريد
اشينفع من وره التابوت
رفعة ايد ؟!) بعتب ضمني لأنها نفس اليد التي تلوح كل يوم لتوديعه وجه لوجه لكنها الآن تلويحة وداع ابدي مجهول لوعي الشاعر.
أخيرا كان نص الشاعر صرخة بوجه الموت والغياب الأبدي لمن واكب في أيامه الاخيرة يشتمل على الكثير من الوحشة واللوعة التي تتنازع روحه
(خليني ولو شمعات بمتون المكابر تنطفي بوحشه
خليني ولو جلمات بشفاف النده من تطلع الغبشه
بيه اعتاب بايت منحجه ابوكته !) ثمة الكثير من اليوميات والتفاصيل الصغيرة التي يصعب التعبير عنها لتقف اللغة عاجزة عن التعبير عنها عجز الشاعر ذاته