يقال إن رجلا يونانيا كان يدعى “نارسيسوس” تعب من الصيد فجلس على حافّة بحيرة ليستريح، فطالعه انعكاس وجهه الجميل على صفحة المياه، واندهش من فرط جماله إلى درجة أنّه رمى نفسه في البحيرة وغرق. ربما تلك الحكاية تعيد المصطلح إلى جذره اليوناني القديم، وربما هي من الأساطير غير المؤكدة، لكن المؤكد أن النرجسية، التي تحمل صاحبها على محفّة الوهم، هي شعور إنساني متجذر في النفس البشرية، على الرغم من أن العلماء والمحللين الاجتماعيين ظلوا على مدى القرن الماضي يحذرون من مخاطر النرجسية والانشغال الذاتي بالنفس وما تمثله من اضطرابات.
لكن ما هي الحدود الفاصلة بين النرجسية والوهم في عالمنا لاسيّما بالنسبة لهؤلاء المشتغلين في الأدب على سبيل المثال؟
في الواقع إن الوهم هو أولى علامات النرجسية وحب الذات أو الأعمال الذاتية وتبريرها بعيدا عن المنطق. ويعتقد بعض محللي ما بات يُعرف بعلم النفس الشعبي، مثل روس روزنبرغ، بأن المصطلح يمكن أن نطلقه على الشخص الذي يعتمد على حب الذات المرضي، لأن مثل هذا الشخص يعتمد كليّا على الذات الكاذبة من أجل الحفاظ على وهم أنه في مستوى معين على صعيد الإنتاج الفكري أو العقلي أو العاطفي، وحسب فرويد فإن هؤلاء غالبا ما يكونون ضحية تربية وسلوكيات أسرية منحرفة في طفولتهم حيث يعدّ وجود الحب والعاطفة والحنان والتفهم شرطا أساسيا. وحسب فرويد دائما، فإن الكثير من الآباء والأمهات ينجبون أطفالا من أجل تلبية بعض الحاجات غير المُلبّاة في حياتهم الخاصّة، وفي أغلب الأحيان يولد أطفال غير مرغوب فيهم، إمّا بسبب انعدام الوعي وضعف الإحساس بالمسؤولية، وإمّا بسبب الشراهة الجنسية غير المنضبطة، وبذلك تكون احتياجات الوالدين أسبقية بالنسبة لاحتياجات الأطفال، ولأن الآباء يتمتعون بالسيطرة الكاملة على أطفالهم، فإن مثل هؤلاء الأطفال سينشأون نشأة غير سويّة من الناحية النفسية، خصوصا عندما يُشعر الوالدان أطفالهما بأن حاجاتهم مصدر إزعاج لهما، وأن مشاعرهم ومتطلباتهم تتناقض مع مشاعر الوالدين، وبالتالي فإنّ مثل هؤلاء الأطفال يحاولون التعويض عن عقدهم العميقة تلك بالأوهام عندما يبلغون مرحلة النضج.
وبقدر تعلّق الأمر بالوهم الأدبي والنزعة إلى الاعتقاد بالعبقرية والاختلاف، فإن النتيجة ناجمة بالتأكيد عن النظرة الأحاديّة أو الذاتية وحب النفس المرضي وما تنتجه من تخيّلات. ومثل هؤلاء لا يقتنعون بالضرورة في الرأي المخالف الذي يسعى لإظهار حقيقتهم، بل إنّهم يلجأون إلى أساليب وممارسات تزيد من توغلهم في الوهم وتخطي الآخرين.
لقد زاد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة استخدامها الطين بلّة في الواقع، نتيجة لسهولة النشر والسلوكيات المنحرفة المصاحبة لاستخدامها. وحسب إمبرتو إيكو فإن "الكثير من الحمقى باتوا يتوهمون العبقرية طالما بمستطاعهم النشر غير المنضبط وغير الخاضع للمعايير"، وهو ما بات يهدد المشهد الأدبي والثقافي عموما بالمزيد من الضبابية والغموض والفوضى.
تقول المخرجة الإيرانية سميرة مخملباف في معرض ردّها على سؤال في شأن انتشار الكاميرات والهواتف النقّالة وسهولة التصوير، إن الأمر يشبه تماما ما كان عليه أواخر القرن الماضي عندما كان الجميع يحملون أقلاما، لكن ليس جميعهم بالضرورة يستطيعون كتابة قصة قصيرة أو رواية، كذلك الأمر بالنسبة لحملة الكاميرات. إن ما قصدته سميرة هنا هو الموهبة أو الملَكَة أو القدرة على الإبداع، سمّها ما شئت، تلك التي تتيح لصاحبها إنتاج أو خلق معجزة إبداعية صغيرة بواسطة الأدوات نفسها المتاحة للجميع. لكن في المحصلة يبقى الخلط وانتشار الأوهام آفة تشكل خطرا محدقا بالإبداع الحقيقي.

عرض مقالات: