صوت مسرحي عال ، شجي بآلامه النابعة من صلب المعاناة العراقية بكل تفاصيلها ، تسرب عشقه للمسرح منذ صباه فأنشأ مسرحا داخل بيت عائلته وسط مدينة الثورة ببغداد وتحديدا في قطاع 36 ، كان ذلك أواخر السبعينيات وقدم أول عروضه على مسرحه البيتي البسيط وكان بعنوان ( أصوات من نجوم بعيدة ) وكتبت الصحافة في تلك الفترة عن هذه التجربة المسرحية الفريدة لشاب صغير كان طموحه لا يتسع العالم له، أنه الكاتب والمسرحي الراحل كريم جثير الذي غادر الحياة عام 2005 في بغداد بعد ان عاد من منفاه الكندي الذي درس فيه وحصل على شهادة عليا ليعمل من أجل مسرح جديد وروح صافية مبتسمة لمستقبل سيشرق على الوطن لكن قلبه خانه في اللحظات الأخير ليودعنا في مستشفى الكندي أثر نوبة قلبية حادة جداً لم تمهله الكثير من الوقت . كريم جثير المولود في مدينة بغداد عام 1961 والحاصل على دبلوم المسرح من معهد الفنون الجميلة عام 1981 عندما يكتب مسرحياته يفيض منها عطر الحنين والمأساة العراقية التي افتعلتها الأنظمة القمعية الشمولية في تاريخ العراق الحديث وله إمكانية بارعة في نصوصه المسرحية التي يتألق في كتابتها وهو يسرد الأحداث عبر شخصياته الفقيرة والمتعبة داخل المجتمع العراقي. قدم كريم جثير العديد من المسرحيات داخل العراق ككاتب وممثل ومخرج وكانت أفكاره ومعالجاته الدراميا على خشبة المسرح تؤكد نضجه وتقنيته الفنية التي استطاع من خلالها ان يجسد حياة الإنسان العراقي الذي زج في الحروب والحصار والهجرة وما نتج عن تلك المآسي والآلام التي مازالت آثارها شاخصة داخل مجتمعنا العراقي ، ولهذا ظل كريم جثير منذ أواخر العقد السبعيني أي قبل بداية الحرب الطاحنة ما بين العراق وايران التي استمرت لثماني سنوات وما بعدها مكرساً اخلاصه وحياة بكاملها للمسرح ، فيما روحه الصافية النقية كانت تزرع عطرها الوهاج في كل عرض مسرحي قدمه داخل وخارج العراق خلال حياته القصيرة . وبعد مغادرته العراق بدأ نشاطه المسرحي وخبرته داخل صنعاء اليمن التي عاش فيها سنوات الى جانب العديد من أصدقائه من الأدباء والأساتذة الذي عملوا داخل اليمن في التدريس الأكاديمي والصحافة والتلفزيون والمسرح، واسس مسرح المقيل برغم الإمكانيات البسيطة الذي أشاد اليمنيون به منتصف التسعينيات وتم تكريمه لمرات عدة لاسهاماته المهمة في المسرح. وفي العطل الصيفية كنا نلتقي بكريم جثير داخل العاصمة عمّان ونخبة من اصدقائنا وأساتذتنا الذين يأتون الى الأردن مثل عناد غزوان وحاتم الصكر وعبد الرضا علي وعلي حسن مزبان وعلي حداد وعبد الرزاق الربيعي والأخير له مشتركات كثيرة مع الراحل كريم جثير الذي كان طيباً محباً للجميع حياته عبارة عن مسرح كبير لا يتوقف فيها العرض الذي يرسمه في داخله ويؤسس له ويحلم به دوما ، انه يكتب مسرحياته بلغة الشعر احياناً وبلغة السارد الذي يتدفق سرده حين ترتفع المأساة داخل العمل المسرحي فتبدأ شخصياته في تألقها وهي تسرد لنا الكوارث التي لحقت في حقب وأزمان أقل ما يقال عنها غابرة . في كتاب كريم جثير الصادر عن دار نينوى في دمشق عام 2001 والذي كان بعنوان ( الأقنعة ومسرحيات أخرى ) يتأكد لنا أن المبدع الراحل كريم جثير الذي رحل في بداية إندلاع الهجمة الطائفية المقيتة وانتشار السيارت المفخخة داخل العاصمة بغداد التي أودت بحياة آلاف العراقيين دون سبب سوى الصراع المستمر على السلطة من قبل أحزاب وتيارات تنتعش جراء ذلك الدمار الهائل الذي خلفته الطائفية .يمتلك كريم رؤية شاسعة داخل مخيلته لكتابة النص المسرحي الذي فيه روح أدبية ويقترب بها من لغة الشعر في بعض المسرحيات التي تخرج الجمل كأنها نشيد أو نثر مكثف ويأخذ بأيدينا الى الشعر وهو يبتكر لنا الشجن والآهات التي يحركها كيفما شاء فوق خشبة المسرح فأقنعة كريم في كتابه تشبه الكابوس الشديد الذي يسيطر سيطرة تامة على الحلم ولم يترك مسافة او استراحة للحالم لكي يلفظ انفاسه بعد معاناة كبيرة داخل الكابوس ، وهكذا تبدو أقنعة كريم جثير في كتابه وكأنها قساوة يتعرض لها الإنسان وهو يبحث عن حريته المسلوبة . وفي مسرحية (لم يأتِ اليوم قد يأتي غداً) يقول الراحل كريم جثير في مقدمتها التي تشد القارئ من أول سطورها:
(
عندما يشعر قادتنا بالبرد، يخرجون إلينا
ليستعرضوا معاطفهم وقبعاتهم وشارات
الحروب التي أشعلوها على صدورهم وقدراتهم
على التمثيل أمام كاميرات التلفزيون من أجل
منافسة نجوم هوليوود ، فنصفق لهم تصفيقاً
حاراً، فيدفأ الجو عندنا، أما عندهم فيصبح
الجو لا يطاق .. عندها يبدأون بقتلنا ليقل عدد المصفقين
وبذلك يعتدل الجو ثانية ..

عرض مقالات: