(كيف ينظر فنان عراقي عاش محنة الحرب الى فنان اسباني عاش كوارث الحرب في بلاده كذلك؟ د. جمال العتابي يجيب من خلال منظوره فناناً وانساناً) المحرر.

بين الفنان والمشاهد حوار غير متعادل، حول ماهية الأثر الفني، اللوحة تفيض وتمتد خارج إطارها الزمني، تتجدد دائماً لتأليف خيال يتناسق مع حساسيتنا ومعرفتنا الراهنة . تشعّ بالجلال، حينما تغمد جسدك في فراغ اللوحة الداخلي، وتقيم حواراً حراً كشريك في عملية الخلق بلغة تعاش من الداخل .

لا شيء كالصمت قادر على خلق الشعور بالتماهي مع هذا القدر من الجلال، لتقف خاشعاً وسط الوجوه الساكنة في لحظات اللقاء، أمام الجورنيكا الأثر الخالد لبيكاسو، الجدران صامتة هي الأخرى،بين الظل والضوء، واقعة بين العين والجدار، لا تتوقف من إرسال إشارات المضامين، مسافة تكاد لا تسمع فيها غير وجيف القلوب، اللوحة تتوهج في صمتها واشتعالها، تسبح في فضاء أبيض، كما لو كانت في معاقل حصينة لا تنالها إلا العيون، وعيون الحسناوات (الحارسات) يترصدن حركة أيدي المشاهدين، خشية أن يتجرأ أحدهم على التصوير، يأخذك الانتشاء ببهاء الإبداع في متدارك هذا الإيقاع،فتحاول الإفلات من هذا القيد، غير ان الجورنيكا لا تمنح نفسها بسهولة للمتلقي،فهي لا تكتفي بإنارتها الداخلية، بل تدعنا ان نمارس معها تجاسداً فنياً يتوازن مع حالة الاسترجاع الزمني الذي عاناه الفنان، يشد الأوتار ويرخيها، يشيّد عمارة ثم يمحوها، يستعيد ويتذكر، يتأوه ويحلم بعالم يسوده السلام .

الجورنيكا أقرب إلى موسيقى كونية هادرة ترفض قوانين السكون، هي دورة أفلاك ترتعش بألوان الأبيض والأسود والأزرق الداكن، لاقتناص لحظات صراعات التاريخ مع جنون الحرب، الصراع بين الظلمة والنور، بين ألق الوجدان ودخان الحرائق والكوارث الإنسانية، الحرب لم تدّمر حواسنا فحسب، بل أيقظتها إلى الحد الأقصى، بكل تراكمها الكمي،محررةً من القياسات والمسافات، وحده الفنان من يعرف ذلك، يهيب بنا أن لا نتأسّى، بل أن نبحث عما وراء أثره الفني،الذي يحمل تاريخ مولده، لكن قصته طويلة، يتناقلها الأبناء عن الآباء، لأن بيكاسو تحرك إلى أزمنة أخرى، إلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة،ليستوفي كامل طاقته التعبيرية، ويبلغ أوج عنفوانه الفني، في خلق لوحة تفكر ذاتياً، بما تختزن من طاقة، في مساحة مسطحة ذات إشعاع داخلي .هي ذي الحرب ذئاب تترصد الأقمار، ويصطلي في مجامرها الفقراء والنساء والأطفال،مدن تسقط وتحترق بظلمائها، وتحتفل الأرض بالشهداء، فينهض الموتى وتنتفض القبور.

الجورنيكا وحيدة في الصالة التي تسبح في فضاء أبيض، لا سبيل للوصول اليها،سوى أن نمنح أنفسنا حق التأمل والاستذكار، والانهماك في تقريب مشهد ضراوة الواقع الذي يعيشه إنسان هذا العصر، ونشفق على أنفسنا ان لا تضيع من مخيلتنا المسافرة سحر تلك اللحظات، إلا بالانغماس في التأمل، واستدعاء الصراخ المنداح من الأعماق، هاهنا تخفق القلوب وتتسارع النبضات مع إيقاع المرحلة الزمنية العاصفة التي يجسدها العمل الفني، المشاهد يقف خاشعاً كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة، ألا فلتظل ساهرا أيها القلب، ما دمت قد عببت كل هذا الصمت، وأنت ساكن تلتقط بكل إحساسك المتفتح من تلك الموسيقى الهادرة من صهيل الحصان. وحين يولد فجر السلام يبدأ الوطن الحب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الجورنيكا ..لوحة الفنان الأسباني بابلو بيكاسو أنجزها في أواسط حزيران عام 1937، معروضة في متحف الملكة صوفيا للفنون في مدريد، وهي مستوحاة من آثار القصف الوحشي لمدينة غورنيكا في إقليم الباسك الأسباني من قبل الطائرات النازية والفاشية، أثناء الحرب الأهلية الأسبانية ، اللوحة مرسومة بالزيت بقياس يقرب الثمانية أمتار عرضاً، وثلاثة ونصف متر ارتفاعا،شكراً لك صديقي العزيز الفنان سعد علي، أنك أقمت هذا الطقس، وهيأت بخوره وصلواته، فلولاك لم أدخل هذا الفردوس، قبلة لك .

عرض مقالات: