في الذاكرة أشياء تحيا مثل مذاق الخبز، لها خطى تجوب الرأس مثل هسهسة العشب، تستريح تارة، وتلوب أخرى، في خمسينات القرن الماضي، كانت الكتب تزاحم مشاجب الثياب، كان بعضها ملوناً يأسر قلبي، وبعض يمنح نفسه لكي لا يغيب.
كانت مجلة (المعلم الجديد)، أول تجاربي في التصفح، وجدتها مليئة بالرموز والألغاز، بعد سنوات وجدت ان المجلة التي تصدرها وزارة المعارف، كانت اشارة دالة على المستوى الثقافي العراقي، وتجربة فريدة جمعت كبار الاساتذة الاكاديميين في هيئة تحريرها.
مصطفى جواد، كمال ابراهيم، علي جواد الطاهر، جعفر الخياط، احمد مطلوب، علي الشوبكي، ضياء ابو الحب، وكتب فيها المئات من الادباء والمفكرين آنذاك .
وكان الدكتور ابراهيم السامرائي احد أعمدة المجلة لسنوات طويلة، القراءة الاولى للمجلة أيقظت في نفسي عوامل جذب ودهشة للأسماء، امتد تأثيرها منذ تلك اللحظة حتى الافاق الرحيبة التي امتدت امامنا نحن ابناء ذلك الجيل .
الأسماء لم تكن عابرة، بل كانت موجة صاعدة في الادب واللغة والفن، في حقبة زمنية محتدمة، لتؤكد ان تيار الثقافة العراقية الجديد، اتخذ مساره العميق بين ثقافات الشعوب، وبعبارة أدق بدأ انعطافاته الجديدة، يسطع في بواكيرها نور أخاذ .
وكان صوت ابراهيم السامرائي قد بدا أشد وضوحاً وتألقا حين اكتشف وجوده خلال مشتبكات اللغة والشعر في قاعات الدرس وخارجها. فأطلّ علينا من نافذة سعة معارفه ب (39) مؤلفاً، و (22) كتاباً محققاً، ومئات المقالات والدراسات. هذه الاعمال لا تعبّر عن امتلاك الحلم وحده، ولا ادوات المعرفة وحدها، بل هي تؤلف إيقاعاً منسجماً مع ذاته المبدعة، حين لا يقيم له ابناء جلدته أعلى المنازل، أو تماثيل من الحب والتقدير.
في عام 1944بدأ السامرائي دراسته في دار المعلمين العالية، ثم أتم دراسته العليا في باريس، وعاد الى وطنه استاذاً جامعياً مرموقاً وفاضلاً، وعلما من اعلام الأدب واللغة، عاش حياته غير منحاز، صلباً عنيداً، شديد الإحساس، زاهداً في الدنيا والألقاب والمناصب، صريحا جريئاً، دمث الاخلاق، كريماً مضيافاً.
تقديراً لعلمه، انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية المصري، ومجمع اللغة العربية الأردني، ومجمع اللغة العربية بدمشق، والمجمع العلمي الهندي، والمحزن حقاً ان لا ينتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي، لتظل في صدره صرخة محبوسة، وهو الذي حفر اسم وطنه في عروق النخل، وأنسجة الورد!!
في ايام الحروب المرعبة، يوم كانت ارض العراق ناراً ورصاصاً، تقدم ابراهيم السامرائي باستقالته الى عمادة كلية الآداب عام 1980، لقد أصبح امراً عسيرا ان أواصل العمل، هكذا ورد في طلب الاستقالة، وغادر الى عمّان ليدرس في جامعاتها حتى عام 1987. ثم قصد صنعاء محتجاً على اجراءات الإقامة الأردنية المتعسفة لينشد:
يا ويل من يشقى بلا وطن
بل ويله يسعى الى بدل
هذا العالم الجليل عاش مغترباً على مدى سنوات طوال، وأنكره مجمع بلاده، وهي اشد جنايات السياسة على العلماء وأكثرها غباءً وحماقة، السامرائي طوّحت به ظروف الحياة وقسوتها متغربا عن بلاده غير متمكن من الاستقرار، كل معنى من معاني الكلمات التي دونها ابراهيم، تضيع هنا في اجواء القتل، وسط اصوات البنادق، وطغيان الطوائف، ما الذي يكتبه السامرائي لمدينته العمارة، التي ولد فيها؟ ما الذي يكتبه لبغداد الحزينة؟ التي خلطوا (دجلتها) بالدم!
اشتهر السامرائي لغوياً ومعجمياً، مؤمناً بتطور اللغة وانتقالها من حال الى حال، شارك في تحقيق اهم معجم لغوي هو (تاج العروس)، وأسهم في تحقيق كتاب العين للفراهيدي مع زميله مهدي المخزومي، كذلك المشاركة في تحقيق ديوان الجواهري، وعمد الى تصنيف معاجم فريدة في موضوعاتها، وهو من كبار نحاة عصره، تناول قضايا النحو، وما عسر منها على نحاتنا الأوائل، وخالف جمهرة الدارسين فيه، الذين قالوا ان النحو وضع بسبب اللحن، ورأى ان النحو نشأ بسبب من الدرس القرآني، في كتابه(من أساليب القرآن).
أسلوب السامرائي، اسلوب الادباء المجيدين، أما الشعر، فحلق به عالياً، وقل من يعرف ذلك.
كان عفيف النفس واللسان، سمحاً متواضعاً، عميق التفكير، وواسع العلم، سديد الرأي. توفي في عمان عام 2001 ودفن فيها، بعد تشييع متواضع من قبل قلة من معارفه!
قبل أيام من وفاته، وحين اشتد به المرض، كتب:
وطني، اني حزين
ها انا ابكي عليك
فهم من قتلوك، وهم من ضيعوك
وطني يا جرحي الدامي، حين أمد اليك يدي، أرى طلك يخفق في أضلعي، ليس عدلاً ان تنام في الظلام!
سلاما لك يا صاحب المروءات، يا ابراهيم السامرائي.

عرض مقالات: