في الوقت الذي اجتمع فيه الثلاثي ـ  نزار قباني و محمد الموجي وعبد الحليم حافظ ـ  لكي ينشروا رسالتهم الوجدانية من تحت الماء، حيث  صدحت في صباحات  المدن ومساءاتها ـ  رسالة من تحت الماء ـ لشاعرها نزار قباني  وبهندسة لحنية مذهلة انتجتها مخيلة واصابع محمد الموجي  وبصوت العندليب،  اجتمع  فيما بعد وتحديدا في مدينة الثورة ثلاثي أخر،  كان شاهدا على ولادة  قصة حب ابطالها...  "  نحن "  ابناء قطاع 18 وشهود القصة بين العاشق " علي دويج " و الدلوعة  " حبابة "

كان "علي دويج"  مجنون بحليم ومعشوقته، اقتطع الكثير من مصروفه واشترى مسجلة نوع ناشينال تعمل بالبطارية، مربوطة بحمالة كتف، يدور في ازقة القطاع يمر في زقاقين معينين، يبتعد احدهما عن الاخر بمسافة.. يريد أن يضيع علينا اكتشاف بيت حبيبته التي كان يعلم  بأننا نعلم من هي وفي أي البيوت تسكن، كان يريد من مروره امام بيتهم رافعا صوت " حليم " في المسجلة الصغيرة المعلقة على كتفه وهو يغني " رسالة من تحت الماء " يحرص وبشغف يوم أثر يوم على ايصال الرسالة الى اذن حبيبته. 

أحيانا يدعونا الى بيتهم، وفي الهول الذي غطت جدرانه صورة كبيرة " لحليم " ويزيد من صوت المسجلة.. وكانت امه تقرعه حينما يرفع صوت المسجله..

(ـ يمه سطرتنا بصاحبك ابو" شعفه " هذا...)

كنا نضحك مع ضحكها ويضحك هو...

( ـ يمه شوفوله جاره.. تارس البيت صور "حليم" ـ وكانت تكسر اللام وتشدد الياء بتصغير محبب وتعني "عبد الحليم")

" علي... ".. استشهد في الاسابيع الاولى للحرب !.. اخذته الحرب كما اخذت أغلبنا  بعيدا عن غرفنا المليئة بصور حليم، أخذتنا بعيدا عن حبيباتنا وامهاتنا وبيوتنا.. بعد استشهاده بشهر.. طرقت امه الباب وهي تدعونا الى زيارة قبره في اربعينيته.. نحن اصحابه حصرا.. وفوجئنا بأنها قد قامت بما لم تقم به أم مثلها من قبل.. كانت تعرف من كانت شاغلة قلب أبنها ، فحرصت على أن تكون "حبابة " من ضمن زوار قبر أبنها، فذهبت الى بيتهم  ودعتهم جميعا الى زيارة الاربعين :

(ـ يمه أجْريتْ سيارتين كبار.. وعزمت نسوان وبنات القطاع كله.. واريدكم كلكم تجون ويانا حتى " حبابة"!..

حبابة  حبيبته التي كان يحاول اخفاء امرها عنا..استطاعت هذه الأم أن تدعوها هي وأهلها بطريقة ذكية، والمفاجأة، أننا وبعد ركوبنا السيارة  اكتشفنا أن " حبابة " كانت تعلم اننا نعلم انه كان يحبها ووسيلته الوحيدة لايصال مشاعره كانت المسجلة التي كان يبث فيها اغاني " حليم " ليترجم لها حبه لانها كانت تنظر الينا واحدا واحدا وتبكي..!

المفاجأة الأهم أن " أم علي " حرصت على أن تجلس هي و" حبابة " في ذات الكرسي الذي جلست فيه " حبابة " وكانت بينهما صورتان.. واحدة لـ " علي.. " مبتسما.. وواحدة " لـ " حليم.. " وهو يلوح للناس تلويحة وداع...!

والمفاجأة الثالثة.. أني بعد سنوات زرت مقبرة وادي السلام، وكعادتي، أمر على قبور الأحبة والأصدقاء بعد أن انتهي من زيارة قبور الاهل.. فكانت دهشتي، أني رأيت قريبا من صورة علي " صورة صغيرة للعندليب " عبد الحليم حافظ " ملقاة على الارض بعد أن فشلت اشرطة اللاصق في تثبيتها على حديدة القفص الذي ضم رفاة اكبر عاشق مظلوم عرفته في حياتي ! وأنا اراقب الصورة على الارض حاولت أن أخمن الأصابع التي ثبتتها على حديدة القفص قريبا من صورة " علي " حائراً بين أسمين، هل كانت أصابع " أم علي " أم أصابع " حبابة " ؟!.

عرض مقالات: