قبل ست سنوات استقبلناه هنا في بغداد.

كنا نقيم المعرض السنوي للفنون التشكيلية، في مناسبة الذكرى التاسعة والسبعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي. وكان هذا المعرض قد غدا فعالية دورية ثابتة، ملازمة لاحتفالات الذكرى السنوية في 31 آذار من كل عام.

فجأة ظهر بيننا صلاح جياد، الرسام البارع المتميز، في ذلك اليوم الربيعي المشمس، ونحن منهمكون في تهيئة افتتاح المعرض على قاعة أكد في شارع ابو نواس، الذي بدا حينها مغمورا بالخضرة اليانعة وببعض الدعة المخيمة بفضل تقييد حركة السيارات فيه.

بين مصدقين ومكذبين وجدناه بيننا في الشارع امام القاعة، ومعنا ونحن نفتتح المعرض، ثم وسط زملائه الفنانين المشاركين ونحن نتجول بين اللوحات والمنحوتات المعروضة.

وكانت هناك على الجدار، لدهشة الحاضرين، واحدة من لوحاته، جاء بها معه من باريس خصيصا الى معرضنا.

 وقد اجتذبت تلك اللوحة الانظار مثلما اجتذبها هو، والى جانبه زميله وصديقه الفنان نعمان هادي، الذي رافقه في رحلته تلك الى بغدادهما الحبيبة.

وكانت رحلة خاطفة. فمثلما ظهر على غير انتظار، غاب عن الانظار على غير توقع. كأنه ومعه نعمان، جاءا ليتشمما عطر بغداد وينتشيا به، ولا غير ولا اكثر، ثم يعودا ادراجهما الى باريس، التي صارت بعد سنوات اقامة طويلة فيها، موطنا جديدا لهما.

كان صلاح بوسامته المعهودة، وقميصه الاسود، وابتسامته الدافئة، ضيفا بهيا على المعرض، وعلى زملائه التشكيليين الذين استقبلوه بسرور وود، وكان كثير منهم يراه لاول مرة.

أيها الأعزاء

عندما نحتفي اليوم بما انجزه صلاح جياد – ووراء انجازه دوافع ثقافية جمالية، واخرى سياسية فكرية، وغير هذه وتلك عوامل اخلاقية – فانما نتقرب بمحبة واحترام من جيل كامل، ومن سرب محلق في فضاء الوطن، انتمى الى هموم الناس وقضايا الشعب، متطلعاً الى غد افضل لهم في وطن ينعم بالحرية، ومواصلاً النضال في سبيل هذا الحلم النبيل.

صلاح جياد القارئ والمثقف، ابن البصرة وابن العراق، الذي لفت انتباه اساتذته وزملائه منذ اختباره الاول في معهد الفنون الجميلة، ثم في سنوات المخاض الأكبر في كلية الفن الجميل، وصولاً الى مختبرات التجريب الفني، والعمل الصحفي، ورسم القصص الشعبية، وتجربته ضمن جماعة الاكاديميين، وتحريضه اياهم على صياغة الهدف الجمالي المرئي السامي، بما تفرضه الاعراف الاكاديمية، ممزوجاً بسلطة عليا للخيال.

صلاح جياد، هذا المبدع الكبير بفنه وانسانيته ونبل مراميه، ما زال يزاحم الشباب برؤاه وامانيه وحرصه، وباخلاصه لذلك الهدف القديم المتجدد، يَرِدُ الرسم خياراً دائماً للتعبير عن الذات، وعن الموضوعات المحيطة، مجترحاً منهجه الخاص سواء ما يتصل بالناس بشكل مباشر، من تصوير ذواتهم المنعكسة على الشكل الظاهري، او الايغال في التعبير عن الجوهر الخفي. وهو في الحالتين يصور الواقع من أكثر من زاوية نظر.

انه الانسان اولاً، الذي تجاوز الساكن في الخطاب الفني. ونحن إذ نحييه اليوم وهو في مغتربه، نريد لمخاوفنا من اذى ينال منه ان تتبدد. نريد له ان ينعم بالعافية الدائمة والعمر الطويل. ونبعث اليه من هنا، من بغداد الغالية، الف تحية عطرة، والف وعد وعهد ان تبقى بغداده وبصرته وبقية حواضر عراق الحضارة، تنتصر ابداً للجمال وللضياء، وتحتفي بكل ما هو جميل ومضيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كلمة رئيس الجمعية العراقية لدعم الثقافة مفيد الجزائري في جلسة الاحتفاء بالفنان الكبير