بثلاث مجاميع قصصية وعدد قليل من الروايات القصيرة، استطاع ضياء الجبيلي، الصوت البصري النقي تحقيق مكانة إبداعية متميزة، بعد أن حظي بجائزتي الطيّب صالح والملتقى المخصصتين للقصة القصيرة. وضياء مثال جيّد للجيل الجديد الذي يحمل ملامح خاصّة ومختلفة، جيل ما بعد الحصارات العظمى والحروب الشاملة والانهيارات المجتمعية العميقة في العراق، ليؤكد ظاهرة الإصرار على التواصل وتبرعم التجارب والأصوات الإبداعية الجديدة المعمّدة بلهب المحن ووطأة العوز. بعبارة أخرى وحسب بوكوفسكي، جيل الإصرار على الغناء من قعر الجحيم.
لقد استطاع ضياء الجبيلي لفت الأنظار الى موهبته، منذ صدور روايته الأولى "لعنة ماركيز" التي حظيت بجائزة دبي الثقافية للعام 2017، لتتوالى رواياته المختلفة تباعًا، مثل "وجه فنسنت القبيح" و"بوغيز العجيب" و"تذكار الجنرال مود" قبل أن يصدر روايته الإشكالية "أسد البصرة" التي تناولت ثيمة مركّبة تتعلق بنساء الأقليات والطوائف الدينية المختلفة في البصرة.
ولعل مجموعتيه الأخيرتين "حديقة الأرامل" و"لا طواحين هواء في البصرة" قدمتا الكثير من مؤشرات اختلافه وتميز أسلوبه ولغته وأفكاره، لاسيّما على صعيد القصة القصيرة، التي تُعدّ من الفنون الصعبة.
ويستند ضياء، شأنه في ذلك شأن مجموعة كبيرة من المبدعين البصريين، إلى إرث المدينة ـ البصرة ـ المسحورة بطلسم الحكايا والموشومة بأسرارها وغموضها، بدءًا من قصص السندباد البحري والشاطر حسن، وانتهاء بمرويات الكاتب الكبير محمد خضير، مرورًا بالتناقضات الحكائية التي كانت تتفاعل في أوساط البحارة الغرباء والتّجار العمانيين والعمال الهنود والعبيد والأجراء وبائعات المتعة وصانعي السمبوسة وكادحي مكابس التمور وعازفي الطنابير ومغني الخشّابة وراقصي الهيوة.
لقد أنتج هذا الخليط العجيب مخاضة خيالية ظلت تترسخ وتتوارث وتُغنى وتتوالى وتتلون، بمرور الوقت، على أيدي الحكائين وساردي الوقائع ومطاردي الأحلام البصريين، مرّة تأخذ طابع البحبوحة والاسترخاء في جنان أبي الخصيب والسيبة، فترتفع مثل صلاة سيّابية في الأسحار، ومرة تأخذ طابع الموت وطعم الدّم، حين تزحف على أفئدتها جنازير الدبابات الثقيلة وتُطفئ القنابل شظاياها الحامية في لحمها الحي، وأخرى تكتسي بلون السواد حين يعيث بها الغرباء تخلفًا ويفرش في أزقتها القرويون أعرافهم الهجينة، فيقصّ نخلها جدائله ويرفع جذوعه المبتورة إلى السماء فيما يشبه سمفونية بكاء حزينة.
لقد ظل كتّاب البصرة ومبدعوها مخلصين لفن القصة القصيرة تحديدًا أكثر من الرواية، كونها ارتبطت بشكل وطيد بآلية الحكاية وتداولها واشتراطاتها وطريقة إخبارها وتداولها وتطويرها تلقائيًا في اللاوعي الجمعي، كما هو الأمر مع مرويات ألف ليلة وليلة، أكثر من فنّ الرواية ـ الهجين إن شئت ـ على موروثنا الحكائي العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص. ولا عجب أن يظهر في البصرة قصاصون من طراز خاص ذاع صيتهم وحملوا على عاتقهم مهمة تجديد هذا الفن وترسيخه، ولا عجب أن يظل محمد خضير رافضًا لنظرية الأجناس الأدبية، ذلك "الوهم الكبير الذي صارع للإفلات منه منذ نصف قرن" كما قال.
لكن وعلى الرغم من ذلك يبقى فن القصة القصيرة فنًّا أصيلًا مكتمل الشروط وهو أقرب إلى الوجدان الشعبي والمخيال الجمعي وأكثر قدرة على الإفصاح عن مكنونات العطاء الحكائي البصري الثر. واستنادًا إلى كل ذلك، يكون ضياء الجبيلي وتجربته الإبداعية الفصيحة، استمرارًا وتواصلًا للطقس الحكائي البصري الخاص الذي ما زال يبتكر شكله واشتراطاته وتبرعم أسراره واعدًا بالكثير في المستقبل القريب.