سألني محدثي على من تشفقين نقديًا؟ فقلت: لا أشفق على أنصاف المتحزبين سياسيين وغير سياسيين، لكنني أشفق على أنصاف المتدكترين وأنصاف المتأستذين وأنصاف المثقفين من المتحذلقين والمتناقدين وأنصاف المتعالمين من المتجسترين والدبلوماتيين.

وسألني: ولماذا تشفقين عليهم ما داموا أنصافا؟ أجبت لأن شرر انتصافهم يطير بهم شذر مذر حتى إذا واجهت أحدهم بانتصافه وأوقفته على حقيقة وضعه، ومقدار حجمه راح يبكيك ويشتكيك، متهما إياك بكل ما أنزل وما لم ينزّل من اتهام، وبغيته أن يتمكن منك بأي طريقة مهددا ومتوعدا، متهسترا ومتعاندا مرتكبا حماقة التنكيل وفضاضة التنديد.

وفي الوسط الاكاديمي الذي استشرى فيه مرض الانتصاف تعاليا عن خواء أو اعتلالا من دون دواء، اخذنا نلمس بين الفينة والأخرى مظاهر ليست علمية هي عبارة عن ممارسات اجتهادية شخصية تغزو الوسط بما لا يلذ ولا يطيب إلا لمن هم أنصاف مثلهم، سواء على مستوى التقييم للترقيات على انواعها والتي بها تُمنح الالقاب العلمية بالمجان أو على مستوى المؤتمرات ولجانها ومحاورها او على مستوى تسجيل الموضوعات وإجازتها للدراسات العليا ومناقشتها ومطالبة أصحابها بالهبات قبل الشهادات.

والمخيب للآمال أن بعضًا من تلك الممارسات هي مغالطات واضحة ومفضوحة، ومع ذلك لا أحد يتصدى لها. إما لان بعض الممارسين لها قساة اجلاف وهم يحاولون تثيبت ما هو معوج وترسيخ ما هو بائد ومتهالك، وإما لان بعضهم الآخر سقيم الى درجة الادمان ومريض الى درجة التأزم الذي لا شفاء له.

فاما الحالة الاولى فلا تنفع معها الصرامة، ولا تهمها المحاسبة بل أن المطاولة معها أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة، كونها لن تفضي سوى الى النفرة والخراب ومزيد من التصادم والاحتراب. وأما الثانية فلا يسهم التهاون معها ولا رحابة الصدر في شفائها من دائها ولا حتى اعلامها بخطورة الحالة التي هي عليها.

ويتساءل محدثي ثالثة: وهل من وراء الإشفاق النقدي حل أو عزاء؟ وأجيبه: فأما الحل فلا، وأما العزاء فنعم، وعزاؤنا نضعه في النقاد المتنويرين الفاعلين والعضويين الذين لا تغريهم دعوة ولا يخطفهم لقاء، والقراء الواعين الذين يتنفسون الهواء فيعرفون بحساسية نقدية اصيلة إن كان الهواء نديا أو كان دخانيا، حاذقين وهم يميزون الجميل من القبيح؟

وعاد محدثي متسائلا: لكن ما الوظيفة التي ينبغي أن يؤديها هؤلاء النقاد؟ وأجيب: أنهم لوحدهم سيعرفون ما عليهم فعله، والذات الناقدة حصيفة لا تحتاج إلى من يدلها على وظيفتها فبصيرتها النقدية راصدة ومشخصة، تجادل بمعرفية وتتحاور بإريحية، لا تبحث إلا عن الحق ولو على نفسها ومن دون أن تأخذها عزة بالخطأ مؤمنة أن الاعتراف به فضيلة، لا تتخاصم لتفاقم الامر متعملقة على الآخر باستعراضات اكروباتيكية بهلوانية عفا عليها النقد البنّاء.

وهذه الذات وإن كانت تفضل الاستمرار في الملاحظة او المراقبة لهؤلاء الانصاف علما ودراسة؛ فذلك لأن الملاحظة أداة علمية تماما كما أن المراقبة عن كثب وسيلة كشف معرفية توقف صاحبها على مزيد من التداعيات التي تعضد التشخيصات التي تحت يديها، وقد يكون الاوان آتيا، فتوقف الانصاف عند حدّهم، شاهرة العلم بوجوههم، فيرتدوا على أدبارهم خائبين ومعهم سيرتد كل ذي نظر خائر وعقل حائر ونفس كليلة.

وبهذا فقط سنوقف عدوى الامراض المنتقلة بالالقاب والدرجات والشهادات والمناصب والاعطيات، وكأني بهذه الذوات الناقدة تعطي المتعافين جرعات لقاح يقيهم شر الانصاف المستطير ويحول بينهم وبين التمثل بهم او الامتثال لهم والاقتداء بنهجهم الذي ابتلي به الدرس الاكاديمي الراهن.

وعاد محدثي يسألني: ألا تدليني على ممارسة واحدة يمارسها الانصاف من المتناقدين تحديدا؟ وأجيب: نعم سأدلك على مغالطة علمية هي عبارة عن مهزلة نقدية واستهانة اكاديمية ومهاترة اجتهادية تشبع تورم الانا والشخصانية وهي تحاول قبض الشهرة بثمن بخس، وذلك حين يطرح للنقاش موضوع مقترح لدراسة عليا كالماجستير او الدكتوراه بينما هو غير صالح لا من ناحية اهليته للبحث العلمي ولا ملاءمته للدرجة المراد الحصول عليها؛ بل من ناحية ضرب القيم الاكاديمية عرض الحائط فلا يقيم لها اعتبارا البتة.

وهنا قاطعني محدثي متسائلا: كيف؟ قلت بأن يكون الذي اقترح الموضوع أعلاه هو المرجع الجهبذ الذي لا جهبذ سواه، يبت بصلاحيته لوحده رئيسا للجنة اولا وعضوا ومشرفا ثانيا ومناقشا مباركا ومجيزا ثالثا.

قال محدثي: هذا يشيب له رأس الطالب قبل الاستاذ، فنظرت إليه معاتبة وقلت له: وهل بعد هذا المثال سؤال عن جدوى الاشفاق نقديا والخراب الذي نحن عليه ما بعده خراب يجتاح المشهد النقدي كالنار في الهشيم، ولا تلمني أنني وأمثالي لا نقوى أن نحرك ساكنا!! لاننا اذا عرضنا ما في جعبنا وأشهرنا أسلحتنا متصدين اتهمنا اولئك الانصاف باللتي واللتيا ولعلهم إذا تصادموا معنا فلن يكون صداما تحمد عقباه لغياب قيم المنازلة باخلاق العلم.

ولكي لا يؤاخذني محدثي بادرت أنا هذه المرة بسؤاله: هل تريد مثالا آخر على ممارسة مماثلة واخرى أشد وأشنع؟ قال محدثي: كفى بالله عليك، دعي الطبق مستورا ولا تقلبي المواجع؛ واكتفي بالتسجيل والملاحظة كما يفعل الذين تعزيت بهم نقديا فذلك أسلم وأحسن.

قلت لمحدثي لا، دعني أخبرك عن السطو البحثي الذي يمارسه الانصاف وهم يغزون على بحث سبعيني أو ستيني أو حتى راهني، لكن من مكان عربي لا ندور في فضاءاته، او يعمدون الى تغيير عنوان البُحيث اليتيم الذي بحوزتهم، وثلاثة ارباعه مسطو عليه من غيره لكن بطريقة (تناصية) تجعل البُحيث المطبوخ يبدو جديدا، مرة كي يقدموه للترقية ومرة ليقدموه لسنمار مدعين فيه السبق والاجتراح معولين على (انتصافية) المدعوين، وقبل ذلك كانوا قد عرضوه مرات في جلسات تأتي على هامش مؤتمرات او مهرجانات.

فقال محدثي توقفي بالله عليك، قلت له هل جزعت وأنت البعيد عن الساحة الذي يراد لك ان تكون قارئا خردويا تستهلك حسب ولا طائل لك في التفكر والتدبر بقصد إعادة الانتاج، لكني وعلى الرغم مما يراد منك أن تكون ذليلا تابعا تسلم بما يقوله له الانصاف من المتناقدين والمتثاقفين، أراك قارئا ألمعيًا. وما اسئلتك إلا دليل على جوهرك النقي ففي الاسئلة نصف المعرفة، وبتفاعلك مع ما اطرح تقودني الى ان اضع فيك ثقتي واتجاوز عدك من انصاف القراء الذين تبهرهم الاغلفة البراقة والعناوين الرنانة يقرأون سطرا ويتغاضون عن عشرة يبدأون بكلمة من هنا ويقفزون منها الى ماتحتها او فوقها لا ضير.

 أنت يا محدثي قارئ نابه لذا ساختبر نباهتك واطلب منك ان تعطيني رأيك في متناقد يريد منك ان تطيعه كي يصل بك الى ما يريد لا إلى ما تريده الحقيقة، يتمسلك معك بلغة أهل السوق مستهينا بفصاحتكَ، يقلّب لك الامور فيريك الشعير قمحا، يفلسف لك ما لا يحتاح إلى تفلسف فيغرقك في متاهة رطانته التي يجيد صنعها حالفا لك باليمين انه يقول الحق الذي به يريد الباطل.

أجاب محدثي نعم استطيع أن أعطيكِ ببساطة شديدة اجابتي واقول لست محتاجا الى ناقد يراني مستهلكا لا منتجا ورقما خارج العملية النقدية لاني طرف من اطرافها لا تستقيم هي من دوني، وأنا حين اشارك الناقد في نقده، فليس لاني اريد ان استلب منه وظيفته، بل لاني اريد ان اشاركه متفاعلا لا مستسلما. ولولا اني على دراية بما اقرا ما لجأت اليه اشاركه عمله، اعرف بالنظرية الادبية، مطلع على مناهج النقد ومراحلها التاريخية، مهتم بتاريخ الادب وعلى دراية بالاجناس شعرا وقصة ومسرحية ومقالا ورواية، امتلك معاييري التي حددها لي ستانلي فش وريفاتير وجبسون وهولاند وسلدن وايغلتن، متفتح على النظريات في أطوارها الكلاسيكية والحداثية وما بعد الحداثية. باختصار أنا هو القارئ الذي لست صفرا على الشمال، وأعرف بما قبل العملية النقدية وما بينها وما بعدها.

صفقتُ له وهللتُ وباركتُ وقلتٌ: إن الاشفاق النقدي الذي بدأت به محادثتك قد تحول عندي الى إعجاب، لكن جزءا كبيرا من اشفاقي سيظل يلازمني وأنا بصدد أنصاف المتناقدين والمتدكترين والمتعالمين باستثناء انصاف القراء الذين بامكانهم ان يكونوا قراء بهوية قرائية ذات انماط شتى عادية ومتفاعلة ومتفوقة ومثالية وخارقة.

وهكذا هي القراءة يا عزيزي كالقراء، لها درجاتها ومفاصلها ومستوياتها فلنضع ثقتنا بالقارئ الذي يتطلع هو من تلقاء نفسه ان يكون ناقدا لا يخون مهنته لمجرد الشعور بمكسب عند هذا وحظوة عند ذاك، عارفا أين يضع قدمه فلا تزل به الى الجهل ممسكا قلمه من دون أن تخدعه محبرته يعلم الى اي المراجع يرجع حين تتيه به الظنون وتتقاذفه الحيرة يمينا وشمالا.

بهذا النوع من القراء أضع كامل ثقتي متطلعة فيهم أن يكونوا نقاد الغد القادم، مكتملين العدة والعدد، راجية ألا يصادفوا (الأنصاف) فوقتذاك سيكون الاشفاق من نصيبهم أيضا.. لكن هل ستدور قبل ذلك الوقت على (الانصاف) الدوائر؟ الله أعلم.

عرض مقالات: