درجت معظم الروايات العراقية، وهي نتاج مجتمع ذكوري – أبوي، على تقديم المرأة، الريفية منها بوجه خاص، بوصفها امرأة ضعيفة الشخصية، خانعة، تقتصر يومياتها على العمل المنزلي والتنظيف ليس لها اهتمام أو رأي في أي شأن سياسي أو اجتماعي، بل حتى في شؤونها الشخصية كالزواج مثلا. كما أنها لا تمتلك أية ثقة بالنفس. خاضعة تماما لسيطرة الأب أو الزوج، واجبها الرئيس هو العمل على إسعاده وإرضائه. حتى باتت هذه الصورة نمطية في الرواية: الرجل القوي إزاء المرأة الضعيفة. ولا بد أن هذه الصورة سترتسم في مخيلة قارئ رواية (أشباح وملاك) للدكتور سعد قاسم الأسدي حين يجد منذ السطور الاولى أن أحداثها ستجري في بلدة الكحلاء الصغيرة في جنوبي العراق. لكن هذه الصورة سرعان ما تضمحل رويدا مع تطور الأحداث وبروز الشخصيات الرئيسة.
تقدم رواية (أشباح وملاك) شخصيتين نسائيتين رئيستين، زنوبة وفاطمة. وهما امتداد لبعضهما الآخر، فقد ظهرتا في حقبتين زمنيتين مختلفتين ولكنهما عاشتا موقفا متماثلا وأبدتا شجاعة متشابهة.
ظهرت زنوبة، حبيبة وزوجة مناتي، قوية ذات ثقة عالية بالنفس تجلت بوضوح في مشاركتها زوجها في بناء مسكنهما الجديد وتوفير المستلزمات الأساسية لحياتهما المشتركة. كما أبدت إخلاصا يستحق الإعجاب لزوجها وعائلتها على الرغم من صعوبات الحياة. والأهم من ذلك أظهرت ولاءَ وحبا لوطنها حين تقبلت رحيل زوجها للكفاح ضد الإنكليز إبان ثورة العشرين. فعلى الرغم من قلقها وترددها الأولي، وهو رد فعل طبيعي من امرأة ستترك وحيدة لترعى ثلاثة أطفال، فإنها رضت بذهابه وبقيت تكافح وحدها من أجل تنشئة أولادهما وتوفير لقمة العيش لهم، ولم يزعزع ثقتها بصواب منهجه نبأ استشهاده على الرغم من ألم فقده. إذ كان استشهاده في سبيل الوطن مصدر فخر واعتزاز لها. وهكذا تحول الحب الكبير بينهما من حب بين زوجين إلى حب أكبر، حب الوطن والتضحية في سبيله. وعلى الرغم من تحول زنوبة إلى أرملة فقدت حبيبها إلى الأبد فإنها أصبحت أيقونة للكفاح تثير الإعجاب.
أما فاطمة، فلم تكن أقل شجاعة وحبا للعراق من زنوبة. فهي حفيدة مناتي وزنوبة، فلا عجب أن تتصف بالصلابة في وجه الملمات على الرغم من كونها محض شابة يافعة. وكان أول اختبار لقوتها حين اجتاحت عصابات داعش الأراضي العراقية عام 2014. إذ تطوع خطيبها أحمد للقتال دفاعا عن وطنه فلم تهن فاطمة أو تتخاذل بل اعتبرت تطوع حبيبها للقتال في سبيل وطنه بمثابة دفاع عنها شخصيا فالدواعش يستهدفون الجميع رجالا ونساءَ دون استثناء. كانت فاطمة تشارك في التجمعات الهادفة إلى تشجيع المقاتلين وتدعو خطيبها إلى الثبات والصبر. وكان ظلها مرافقا له طوال تصديه لرجال داعش تشجعه بكلماتها وتدعمه روحيا ومعنويا للصمود والمقاومة حتى استشهد.
وهكذا فإن زنوبة وفاطمة شخصيتان مهمتان لم تمنعهما التقاليد من ممارسة أدوار تنم عن شجاعة وروح تعشق الحرية. لم تكونا متمردتين بالطبع لكن طاعتهما للأب أو الزوج لم تكن طاعة عمياء أو خضوعا مذلا. كانتا شخصيتين قويتين مخلصتين صمدتا بوجه الصعوبات وتقبلتا التضحيات من أجل شيء أكبر وهو كرامة وعزة الوطن. إنها طاعة ايجابية نتلمس بها الكرامة والكبرياء والشرف، صار فيها حب الأب والزوج والأخ امتدادا لحب الوطن.
نشأت زنوبة وفاطمة في بلدة ريفية يتسم مجتمعها بهيمنة النظام الأبوي. مع ذلك استطاعتا ممارسة أدوار لا تقل شأنا عن الرجال بسبب قوة شخصيتهما. وأثبتتا قدرة المرأة على أن تكون ندا للرجل في صلابتها. مما يذكَر بشخصيتي جين اير في رواية شارلوت برونتي التي تحمل الاسم ذاته واليزابيث بينيت في رواية جين اوستن (كبرياء وهوى). لم تؤثر تقاليد المجتمع عليهما سلبا بسبب امتلاكهما قوة الشخصية والاعتزاز بالنفس.
في (أشباح وملاك)، خرجت المرأة عن القيود الاجتماعية. وحسب وصف واضعي النظرية النسوية تطلق المرأة قوتها حسب الموقف الذي توضع فيه. وكما وصفت الكاتبة البريطانية ماري وولستونكرافت في كتابها (دفاعا عن حقوق المرأة) أن هنالك اوقاتا تتطلب من المرأة إحداث ثورة في سلوكها لإصلاح ذاتها وشخصيتها لأجل إصلاح العالم. وهذا ما فعلته زنوبة وفاطمة.