ثرثرة واعية في حافلة لنقل الركاب


في ذلك اليوم الشتوي القارس من ايام شهر شباط الماضي، وبعد انتهاء ساعات الدوام الرسمي في الدائرة التي اعمل فيها، ركبت الحافلة متوجهاً الى بيتي. كانت تجلس في المقعد المواجه لي امرأة في الاربعين من عمرها مع طفلتها، متسربلة بعباءة سوداء، وترتدي ملابس بسيطة وحجاب رمادي اللون يلم خصلات شعرها.
كان الجفاف بادياً على شفتيها الباهتتين وفتور في عينيها السوداوين. دفعت اجرة الحافلة وهي شاردة ببصرها عبر النافذة في الفضاء الممتد امامها، فخيل لي انها تحدث نفسها. فملامح وجهها الكدرة تشي ان هناك فيضا من المعاناة رابض في داخلها تريد ان تفضفض به. فيما أنا استرق النظر اليها بين لحظة واخرى، فأراها مستمرة في شرودها وهو، ما تفضحه ايضاً معالم وجهها التي تنبسط وتتقلص. احياناً حتى نطقت اخيراً :
-ناس تسكن القصور وناس تسكن "الحواسم ".
فأقحمت نفسي معلقا على كلامها: هذا حال الدنيا يا اختي. فردت قائلة: أي ضمير يقبل بهذا الحال، ناس تسكن بيوت من الصفيح والطين لا تحمي من برد ولا تقي من حر. واضافت قائلة: صدقني البارحة لم يغمض لنا جفن حتى الصباح. سيول الامطار داهمتنا من فوق ومن تحت.
وهي مستطردة في الحديث عن معاناتها، رحت استمع اليها بانتباه وجدية اكثر، متعاطفاً مع حالها وحال امثالها من الناس، وما كان عليّ الا ان اواسيها بكلمتين تقليديتين: الله يعينكم .
انفرجت اساريرها عن ابتسامة باهتة معلقة: كل شيء حتى السماوات متبرئة من الفقير.
لحظتها حضرتني ابيات شعر للشافعي يقول فيها :يمشي الفقير وكل شيء ضده /والناس تغلق دونه ابوابها /وتراه مبغوضاً وليس بمذنب /ويرى العداوة ولايرى اسبابها /حتى الكلاب اذا رأت ذا ثروة /خضعت لديه وحركت اذنابها /واذا رأت يوماً فقيراً عابراً/نبحت عليه وكشرت انيابها .
وعادت لتقول: حتى بهذا السكن الحقير الذي نحن فيه، تشاطرنا الكلاب السائبة والقطط والجرذان والفئران والحشرات والديدان ،ونلتحف دخان النفايات المحترقة وتداهم انفاسنا الروائح العفنة الكريهة المنبعثة من محارق الدجاج والحيوانات والطيور الميتة ،وربما روائح لأجساد بشر رميت هناك". قالتها بسخرية عارمة.
انشددت لحديثها واردت ان اجاريها فقلت لها :
-ما الذي دفعكم للسكن في هذه المناطق العشوائية المهمشة الموبؤة بالأمراض وبكل ما يحط من قدر وادمية الانسان من تلوث وذل ومعاناة؟
-الذي دفعنا يا اخي هو الأمرّ منه العوز ...العوز يا اخي!! لا نملك امكانية ايجار سكن ولا شراء دار، قل لي بربك اين نذهب؟
سحقت هذه السيدة فؤادي بكلامها. سألتها عن عمل زوجها فأجابت:
-كاسب....لديه بسطية ،يفترش الارصفة لبيع السلع العتيقة ،والانكى من هذا تطارده اجهزة البلدية كما تطارد جميع الباعة دون ان توفر لهم اماكن مخصصة لعرض بسطاتهم.
ولمعرفة حجم مأساتها سألتها عن عدد اطفالها فأجابت: أربعة اطفال .وبغية التخفيف من وطأة المعاناة في نفسها ، رحت امازحها :لماذا تكثرون من انجاب الاطفال مادامت ظروفكم المعيشية بهذه الحالة السيئة ؟وفي لحظتها تذكرت قول المعري: هذا ماجناه ابي عليّ وما جنيت على احد.
-يقولون المولود يأتي الى الدنيا ، ورزقه معه
-وهل هذا صحيح؟
-طبعاً لا. والله يا اخي الدنيا تصاحب ناس وتظلم ناس، والمثل يقول ناس تاكل دجاج وناس تتلقى العجاج، ناس تلعب بالفلوس لعب وناس حسرة عليها كسرة الخبز. شكواها وحديثها عن سوء ظروفها اخذا منها مأخذا فامتقع وجهها فسالتها :هل شاركتم في الانتخابات الاخيرة
-نعم شاركنا وانتخبنا من قال لنا :سوف نجد حلاً سريعاً لمعاناتكم ،وسنوزع عليكم قطع اراضِ سكنية او نبني لكم بيوتاً خلال فترة قصيرة.
-واخيراً ماذا تبين لكم؟
-ظهروا على حقيقتهم ....الكذب واستغفال الناس كان ديدنهم ،الواحد منهم ما ان يستلم امتيازاته في مجلس النواب حتى ينسى من انتخبه ،وقد حنثوا بوعودهم وذهبت هواء في شبك
-لماذا لا تطالبونهم بتنفيذ وعودهم؟
-الناس يتظاهرون لكن دون فائدة .
من فوري قلت لها :
التظاهرات وسيلة للضغط على صناع القرار لنيل الحقوق وكلما اتسعت وانتظمت ستحقق اهدافها عاجلا ام اجلا . والمثل الشعبي يقول :كثر الدق يفك اللحام .
بصوت خافت ردت :يقولون ان امريكا وايران وتركيا والسعودية بجانب الحكومة وليس من مصلحتهم تغير واصلاح البلد . ونحن مغلوب على امرنا.
التفتت نحو طفلتها الجميلة وكانت مسترسلة بنومها، تسند راسها على فخذ امها وسالتها هل تذهب ابنتك الى المدرسة؟
-نعم ..في الصف الثالث لكن هذه السنة انقطعت عن الدراسة بعد ان اصيبت بمرض الصرع وتنتابها احياناً نوبات الصرع في اي مكان تكون فيه ونحن نخاف عليها ،فقرر والدها ان تترك الدراسة هذا العام. ثم استدركت تقول: انا الان عائدة من مستشفى الجملة العصبية حيث ذهبت لغرض معالجتها. واضافت وهي تطلق حسرة وزفيراً كأن ناراً خرجت من فمها: وبصراحة، حتى اجور السيارة واجور مراجعة المستشفى اقترضتها من جارتي.
نزل كلامها كالصاعقة على رأسي، وفي ذاتي قلت :هل يستحق المواطن العراقي كل هذه المعاناة والمذلة واموال البلد وخيراته تذهب الى الفاسدين، ورواتب خيالية لأصحاب الدرجات الخاصة والرئاسات الثلاث وميزانية البلد تعادل اربع ميزانيات لدول مجاورة والبطالة والفقر مستشري بنسب عالية في البلد والبنى التحتية والخدمات بأنواعها في اسوأ حالها .تلك اذن قسمة ضيزى.
أخرجت من جيبي مبلغاً من المال ودسسته في يد طفلتها الا انها لعزة نفسها وكرامتها رفضت ذلك رفضاً قاطعاً. واستطردت تقول :كان ابي رحمه الله نقابياً معروفاً ،سمعت منه مرة يقول: الوطن وخيراته يجب ان تكون للجميع ،فاين نحن من هذا ؟
كانت طروحات هذه السيدة من الوعي والادراك، افرحتني واحزنتني في نفس الوقت، امرأة تحتضن اطفالها بعزة وكرامة وتعي ما يحيق بأهلها ومواطنيها ،فسألتها ماذا بخصوص اولادك الاخرين ؟
-يذهبون الى المدارس والحمد لله .صمتت قليلاً ثم عادت تقول :لا احب ان ازعجك بواقع مدارسهم الآيلة الى السقوط، المتربة بساحاتها والشوارع المؤدية اليها ، وقلة معلميها ،وسقوفها الخاوية التي تسرب الامطار الى صفوفهم، ناهيك عن غياب المتابعة وضعف المستوى التدريسي فيها .
وفي خضم هذه الموضوعات التي تجاذبناها معاً اقترحت عليها ان تجد عملاً تساعد زوجها في اعالته لهم.
-تعلمت الخياطة وامتهنتها في البيت لكن واردها كان قليلاً ،فالناس في منطقتي همهم الاول هو البحث عما يسد رمقهم ،وليس اقتناء الملابس او خياطتها ،واضافت تقول :على اية حال "العيشه دابره". قالتها بألم واسى .واستمرت تقول: الدنيا تركض بنا واقدارنا توزع علينا الذل والهوان والفقر والعوز والمرض والموت المبكر .
ليس لدي ما اقوله لها بعد هذا الاسترسال في الحديث الا ان ازرع فيها الامل فاقول لها: الله كريم .
-ارجو ان لا تزعل مني ان قلت لك ان مشكلتي ومشكلة غيري ليس لها علاقة لا بالرب ولا بالسموات لها علاقة بالحكومة فهي من تملك الثروة والمال والقانون والقوة والقرار. لو أردت ان تفعل شيئاً...لفعلت، لكن اللي ايده في النار مو مثل اللي ايده في الماء.
افحمتني بكلامها ومنطقها الذي ينم عن وعي وصراحة وشجاعة فتلجلجت بكلامي محاولاً تهدئة غليانها. قلت لها: "شدة وتزول". فعلقت واليأس يغمرها: متى تفرج يا اخي وعقود من الزمن مرت ونحن على هذا الحال ومن سيئ الى اسوأ؟
وهي تتأهب للنزول من الحافلة اطلقت حسرة حارقة وهي تردد: انشوف حال البعض ونموت من القهر، بيوت فخمة، وسيارات فارهة، مال وحلال ووظائف محترمة في الدولة، وجاه واعتبار. اما نحن فقد بلغنا اقصى درجات الحضيض.
ثم وهي تغادر الحافلة اعتذرت لنا ان كان بوحها وثرثرتها قد سببت اوجاعاً لرؤوسنا. فأجبتها قائلاً: لا ابداً انها ثرثرة واعية وبوح لابد منه تشكرين عليه. وفعلاً بعد مغادرتها تجاذب الركاب حديثاً ساخناً تناول همومهم وهموم الوطن وما ننتظره من مصير .

عرض مقالات: