في فوضى المصطلح النقدي وحاجته إلى الدقة، تتأتى ضرورة التنظير لنقد النقد الأدبي لتثبيت حقيقة علمية ترد على الواقع بعلمية في الساحة النقدية العربية عموما، وفي محاولة تأصيل مصطلح "نقد النقد الأدبي" الذي تأخر شيوع استعماله على نطاق واسع في الثقافة العربية، وإن كان موجودا فيها، فأن المختص النقدي المبدع ضمن حدود بنيته المعرفية تساوي أكثر من أن يكون رد الآخر "هذا رأيك". وفي ظل هذا يتأتى إصدار كتاب "مقاربات في تنظير نقد النقد الادبي" الذي يتناول موضوعاته بدقة وعلمية، متضمنا الرد على ثقافة الفوضى التي تستظل بمنطق: "هذا رأيك".
ويكتسب كتاب "مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي" للدكتور عبد العظيم السلطاني أهميته من جهتين، الأولى تتأتى من جهة توقيت الصدور ليكون كتابا في المكتبة العربية النقدية. فهو كتاب صادر الآن ونحن نعيش واقع الفوضى التي ضربت كل مفاصل وجود المجتمع العربي، ولاسيما حياته الفكرية والثقافية. ومن بين تجليات تلك الفوضى ما هو حاصل في واقع المصطلح النقدي، ولاسيما المتعلق منه بنقد النقد الأدبي. وهذه الفوضى مازالت مستمرة وتتشعب في ظل ثقافة زائفة، تتجسّد في "هذا رأيك" موشاة بشيء من الحذلقة، من غير استناد إلى حيثيات علمية. منها على سبيل المثال ما يتضح في مواقف نقدية أدبية، حدثت معي ومع غيري من النقاد نذكرها لتقريب الصورة: إذ في إحدى الأماسي الأدبية، طُلب مني أن أقدم ورقة نقدية عن قصص قصيرة لتلك الجلسة، ولم أقدمها لأن القائمين على أدارة الجلسة يتعاملون مع النقد على أنه أين الصح وأين الخطأ – منظور النقد القديم -، ولا يملكون ثقافة نقدية حديثة. وفي موقف آخر كنت قد التقيت أحدا يكتب القصة قبل جلسة نقدية بأيام، وكنت ناصحا له أن يغير استعمال مفردة "غفير الى خفير: مثل الصيدلية الخافرة" لأن "غفير" لا تعني ما يصبو إليه هو من معنى الحارس الليلي، فأجاب القاص "هذا رأيك" وأنا لي رأي مختلف! وكأن الأمور حديث عن موضوع من الممكن أن تكون فيه الآراء مختلفة كتقديم خدمة ما تحتاجها المدينة أو لا تحتاجها، فأجبته ببرود أنت قاص تكتب القصة وأنا ناقد وهذا عملي - فضلا عن نيلي الماجستير في النقد الأدبي الحديث والقصة جزء منه - وهنا يبقى الرأي لكَ أن تأخذ النصيحة النقدية أو ترفضها، ولكن كن على ثقة بأنّ غيري يعرف أنك على خطأ. ثم قررت أن لا أساهم بورقة نقدية في تلك الجلسة. هذا الموقف ومثله مرّ كثيرا عليّ وعلى غيري من النقاد، في حوارات مختلفة هنا وهناك ومن منصات أدبية متباينة وتتردد كلمة "هذا رأيك" في مواضع ومواطن، وهي من اختصاص النقد الأدبي و قد كرس الناقد جل وقته لها. من هذا الواقع الذي يسود فيه منطق "هذا رأيك" في قضية نقدية وقضايا نقدية أدبية في مجتمع يدّعي الثقافة والمثاقفة عراقيا وعربيا وماكنة الإعلام والعلاقات الشخصية ومصالحها قد تُبّرز هذا أو ذاك، من غير فحص معرفي حقيقي، هنا تغدو الفوضى أكثر. فما بالك في قضية أكثر تعقيدا وتداخلا، وهي تراكب المفاهيم النقدية وبناء بعضها على بعض، وأعني بها "نقد النقد الأدبي"؟!
من هذه المنطقة تتأتى أهمية الكتاب من طبيعة المحتوى العلمي بين دفتيه، فقد تناول مصطلحات "النقد" و"النقد الأدبي" بوصفها بنية تحتية معرفية لـ "نقد النقد الأدبي"، فيما أخذت مصطلحات "نقد النقد" و"الانتقاد" و"الميتا نقد" منحى أكثر معرفية، بوصفهما بنية فوقية للكتاب في "نقد النقد الأدبي". ومن الأفضل بمكان أن نقتبس ما كتبه أ. د عبد العظيم السلطاني في مقدمة كتابه "مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي"، هذا حيث: "هذا الكتاب يخوض في محورين رئيسين، أولهما مجال التنظير لنقد النقد الأدبي بوصفه خطابا، من حيث مفهوم نقد النقد الأدبي وطبيعته والمحاور التي يرتكز عليها وجوده، ومن حيث الحقل الذي ينتمي إليه. وهذا يستلزم وقفات تصنيفية للممارسات النقدية من حيث التنظير والتطبيق، ومن حيث طبيعة الموضوع الذي تشتغل عليه، والحقل الذي تشتغل فيه، فضلا عن طبيعة الأسئلة التي حرّكت الممارسة النقدية. ويبقى موضوع المصطلحات الدالة على مفهوم نقد النقد الأدبي موضوعا رئيساً في هذا الكتاب.
وفي ثاني محوري الكتاب خَوْضٌ في واقع تنظير نقد النقد الأدبي عند العرب خلال القرن العشرين. ليجيب المحور عن سؤال رئيس هو: هل للعرب نصيب من التنظير في مجال نقد النقد الأدبي في القرن العشرين؟ والإجابة عن هذا السؤال تستدعي أسئلة أخرى مثل: هل كان المنجز العربي في مجال تنظير نقد النقد الأدبي دالا على خصوصية نقدية عربية، أم هو جهد مبني على منطلقات نقدية غربية، شأنه شأن المنجزات النقدية الأخرى؟ وهل هو منجز متطابق من حيث منطلقاته التي يستند إليها فهمه، أم هو متنوّع المشارب والاتجاهات، حتى غدا تصنيف توجهاته أمرا ضروريا لغرض الفهم؟. وهل كان ذلك المنجز على درجة واحدة من الأهمية المعرفية؟". وهذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها الكتاب في جهد مائز للمؤلف، تجلى في المتن والهامش على حد سواء، ليغني المكتبة العربية بضرورة ملحة في أيجاد مناقشة للواقع، ومنه على سبيل المثال صفحة 73 مصطلح "الميتا نقد": معناه ما وراء النقد وهو مستعمل في قسم من الكتابات بالإنجليزية، وهو يجمع مصطلحين مستقلين هما "الانتقاد" و"نقد النقد" على حسب رأي الناقد العراقي د. باقر محمد جاسم الذي دعا الى استعماله في النسق النقدي العربي، إلا أنّ أ د. عبد العظيم السلطاني في كتابه قيد القراءة قد وضّحه من حيث عدّة مستويات بنيوية : فناقش بنيته الصرفية وقد استبعدت كلمة "الأدبي" منه فهو يماثل مصطلح "نقد النقد". ثم ناقش موضوعة الترجمة "الميتا نقد". فوجده مصطلحا هجينا مكوّنا من كلمة إنجليزية "ميتا" – تعني ما وراء - ونقد كلمة عربية هي "نقد".
وفي المستوى الدلالي يقترح المؤلف استعمال ما "وراء النقد" بدلا من "الميتا نقد". ويستدرك قائلا: إنّ كلاهما سيفشل أذا أردنا نوخي الدقة في التعبير عن "نقد النقد". وفي خضم الكتابة والسطور نسمع صوت أيزيك أندرسون امبرت وهو يتحدث عن مصطلح نقد النقد في الغرب سنة 1968 فيقول:"في الأعوام الأخيرة ظهر نقد النقد وهو يهدد بأن يصبح علما جديدا أي أن نصنع مع النقاد ما يصنعه النقاد مع الشعراء"، ثم هذا الكاتب امبرت نفسه يبدي استعداده لاستبدال مصطلح "نقد النقد" بمصطلح "ما وراء النقد". وهنا يفيد دكتورعبد العظيم السلطاني ببقاء موضوع هذا المصطلح أو ذاك غير محسوم النتائج، وأن مصطلح "نقد النقد الأدبي" الذي يدعو إليه في كتابه هو الأكثر دقة.
ولنا أن نذكر هنا بعض مواطن الإشارة إلى جماليات الكتابة التي ذكرها المؤلِّف، من مواقف نقد النقد العربي في القرن العشرين. من مثل موقف الناقد عباس محمود العقاد من مفهوم "الإحساس":"ومن المفاهيم ذات البعد النقدي المبثوثة بطريقة مشوّهة في واقع النقد الأدبي في مصر والشرق التي يجدها العقاد بحاجة إلى نقد النقد، مفهوم "الاحساس"، الذي هو في حقيقته طبقات في نظر العقاد. في حين أنه – أي العقاد – يجد هذا المفهوم مشوّها لدى بعض المشتغلين بالنقد، فهم يظنون الإحساس مرادفا للترقّق. ويُجمل العقاد القول بـ "أن الفن والأدب وجدان ولكنه وجدان إنسان، ولن يكمل الإنسان بغير ارتفاع في طبقة الحس، وارتفاع في طبقة التفكير، ولن يخلو الأدب المعبِّر منه من هذا وذاك، ولا يقاس نصيبه من الحس بمقدار نقصه في التفكير"". ومن جماليات الكتاب أيضا مقاربته لتجربة أحمد أمين النقدية، وآراء الحمصي في النقد، وغيرهما... لقد تضمّن كتاب "مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي" حفريات معرفية في منحوتات النقد الأدبي العربي الحديث، وغوصا عميقا في بنية المعرفة في واقع المراحل النقدية وطبيعة علاقة بنية المجتمع والنقد، وما نتج عنها من آراء نقدية أو تطبيق في مجال نقد النقد. ليخلص الكتاب إلى ضرورة احتكام الناقد العربي لنظرية المعرفة وسعة اطلاعه وإخلاصه للّغة الأم، شأنه شأن أي ناقد جاد في ثقافة أخرى ينتمي إلى لغته والمعرفة.
ومن المفيد هنا أن نذكر مباحث الفصلين الذينِ بني عليهما الكتاب: فالفصل الأول نقد النقد الأدبي مقاربة المفهوم والانتماء والمصطلح: أولا: نقد النقد الأدبي المفهوم والانتماء، فيما صار ثانيا: مصطلحات نقد النقد الأدبي: 1 - نقد النقد 2 - الانتقاد 3 - ميتا نقد.
وفي الفصل الثاني مقاربة في مفهوم نقد النقد الأدبي العربي في القرن العشرين: الذي تكوّن من: مداخل منهجية، و محطات في رحلة تنظير نقد النقد العربي، ثم جاء: أولا :تنظير مستقل مقصود هو ضوابط التحليل. وثانيا: تنظير مبثوث في التطبيق: الممارسة التطبيقية والتنظير اللاحق. وثالثا: مساحات التنظير المشترك: أنموذج المشترك المتداخل في النقدية العربية، وشروط النقد لدى الحمصي، وأنموذج مشترك بين نقد الأدب وبين نقد النقد الأدبي في النقدية العربية. وفي نهاية الكتاب خلاصة القول الذي انتهى إليه الكتاب.

 

عرض مقالات: