سألته .. فيما هو مشغول باشعال سيكارته : ماذا عن آذار ؟ هل هو ربيع عراقي أم ذاكرة ممتلئة بصور مقحمة فيها ؟! هز رأسه علامة الايجاب وقال بصوت لمست فيه الرغبة في ان يبقى متحدثا بلا مقاطعات :
"صحيح ان الاوطان في آذار تشرب مياهاً جديدةً، وتلبس الارض ثياباً خضراء وتنتعش الأرواح بالنسيم اللذيذ، لكني أقف عاجزا عن وصف ما يجري في هذا الشهر تحديدا، في الوطن بشماله وجنوبه غربه وشرقه. لكني أنحاز كثيرا الى جبال وسهول شمالنا الجميل ، ولاأستطيع ان اتخيل نفسي بعيدا عنه خاصة في شهر ارتداء الارض حلتها الجديدة " .
قاطعته وأنا أعلم أنه سيمتعض من ذلك : " وكم آذارات عشتها في شمال الوطن؟"
قال : في سبعينات القرن الماضي ، كان ذلك الآذار مختلفاً عن غيره من آذارات الوطن ، حيث البوصلة تشير الى يوم 11 منه ـ كانت الاشارة الى التاريخ واضحة ـ ... فالتاريخ يشير بوضوح الى بيان اقترن بتاريخ ايقاف حرب الاخوة ... بيان حاولت الدولة ان ترسخه وطرحته كبديل لحرب طويلة دارت رحاها في جبال ووديان وكهوف الوطن ، حرب كانت تتغذى في كل يوم بدماء شباب من ابناء الوطن الواحد ، شباب يساقون لاداء الخدمة الالزامية ، يقابلهم شباب يتخذون من الجبال ملاذات وممرات في ممارسة حياتهم. قال ... " كان حظي ان اساق الى وحدة عسكرية .. في اطراف مدينة الدبس .. تماما في مكان قريب من الطريق المؤدي الى السليمانية واربيل .. الشمس في ظهورها الاول الذي رأيته في ذلك الصباح منحتني شعورا هائلا بالهدوء والطمأنينة، قلت اللعنة عليكِ ايتها الحرب، رغم أنى لم أعش حربا إلا في المخيلة، لكنني كنت اخشاها كثيرا. في ايامها كانت المرة الاولى لي التي اكون فيها بعيدا عن الاهل لاكثر من شهر، يعصرني الحنين الى امي والبيت. سلمونا تجهيزات عسكرية .. وبندقية روسية طويلة تسمى " سيمنيوف ".. ودربونا على رشاشة عملاقة ومدفع هاون ... كنت لا أستطيع أن امتلك الاتزان خاصة وانا اغرق في فوضى الاسلحة وروائحها المشبعة بالزيت والنفط ...لم اخرج كثيرا الى البلدة التي كان يذهب اليها اصدقائي الجنود .. لذا كنت امضي وقتي وسط بستان قريب من المعسكر .. يومها سمعت الصخب يتصاعد من غرف الضباط وحديث عن بيان سمي بـ 11 آذار .. بين مؤيد متحمس وبين من يقول ان الامر يحتاج الى الكثير من الوقت حتى نخرج من مأزق الحرب ... فرحتُ يومها وحزنت .. لولا الاخبار التي توالت علينا .. بعد ان تقرر تحريك وحدتنا الى مناطق لم تكن الطرق اليها معبدة .. وهذا الامر كان يسبب الكثير من القلق لمن يقطع تلك الطرق خوفا من الالغام التي كانت مزروعة من الطرفين ، الغام جرفتها سيول طينية تمسك بعجلات السيارات بعضها ينفجر محدثا خرابا جديدا ودما مضافاً يراق على ارض طينية هشة تحتجز العربات وتمنعها من السير.
حينها صمت قليلا قبل أن يواصل: " يبقى اذار يحمل طعما خاصا ورائحة خاصة .. حتى اذا كان الامر في قرية منسية قريبة من جبل عملاق لا طرق تؤدي اليه سوى تلك الممرات الزلقة والمحاطة بالالغام".

عرض مقالات: