لم تكن زهيّة الفيصلاويّة تبذل الكثير من الجهد ليبتهج عبد، ابنها المشتتاوي، المعجون عجن بسمرة ليست الدهلة إلّا واحدة من اشتراطاتها، مع خفّة دم لا تفارق "السمران" أهله. فما عليها لكي يُميل عبد رأسه إلى الجانبين انتشاءً سوى أن تدسّ كفّيها تحت إبطيه وترقصّه: چنّه ورد بالعبّاس، مع يقين زهيّة أن ابنها أملح بامتياز!! ويرقّ صوتها وهي تنظر في عين السماء وتردّد: اطّاك يَمْن اطّيتني.. وويّ العرب ساويتني .. ومع تقدّم عبد رويّح في العمر يكتشف مصادر أخرى للابتهاج، من بينها إيقاع حوافر الخيل في خببها وعدوها وتبخترها .. والتصويت الايقاعي للفلاليح في مواسم الحصاد وهم يردّدون بعزم وحزم: الحگ ماطك يا ابو الرغفان .. يؤنسه ايقاع الفناجين الراقص السريع وهي تصطدم ببعضها بأيدي الگهوجيّة. أما الايقاع الذي أوحى له بعدم انتظام الوجود برغم دقّته فهو الأنين المكتوم الذي يطلقه الهاون وهو يتلقّى طعن اليَدَّه الصلبة في غوره .. هناك، على شواطئ المجر اكتشف عبد رويّح أن الأرض ليست محمولة على قرن ثور، لا، بل على الطرف الثاني الأجوف من طبلة عملاقة.

في المدينة التي آوت النزوح السريع المضطرب للشروگيّة سمع عبد رويّح مَن يقول على لسان الديوك التي تُذبح عند أقدام العرائس وهن يلجن عتبات بيوتهن الجديدة: مثل ديچ انذبح وبحنّة معرّسين ـ كاتلني الوجع والوادم تهلهل.. فتسلّلت إلى قلبه قناعة أنه يشبه الديوك.. لذا، كان يضع خشبته على رأسه عموديةً، في لحظات احتدام الايقاع وسخونته، لتقوم مقام عرف الديك الذي يسكنه، أو أن يضرب بها رأسه لقمع "عُرفه" الناتئ ويخرسه. الوجود في عين عبد رويّح موزّع ومتشظ بين ثنائيات ليست منصفة حدّ العبث: حزن غائر وفرح غامر، شرّ وخير، نور وعتمة، حقّ وباطل، قبح وجمال، فحاول تنظيمه بطريقته عبر "خشبته" الصغيرة الطيّعة فصفع غشاءها الرقيق المصنوع من شغاف قلوب الابل والدواب.. صفعها برفق أولًا، فردّت عليه بصوت كأنه النبض: تُم تُم، ثمّ حين طالت رفقته مع "الخشبة" وترصّنت ابتدع ايقاعات سريعة كفيلة بإزاحة الرصانة والحياء والهيبة غير المجدية عمَّن يسمعها، ايقاعات تقشّر جلود مستمعيه مما يحيطها من "كْشاش" لتكون وجهًا لوجه مع جوهرها. يسرع في ايقاعاته، ربما لأنه يعرف أن إيقاع العمر سريع، يشبه في هذا عدَوَ أيامنا إلى مثوانا الأخير. في الأعراس، يبدو عبد رويّح الأوضح من بين أعضاء "الشّدَّة"، ليس لأنه النحيف الأسمر، ولا لأن عينيه جاحظتان كمن يختنق لندرة الهواء في رئتيه، بل لأنه يطارد بايقاعاته السريعة شبح الوجود الذي يتقدمّه دائمًا بمسافة قصيرة تغريه باللحاق به، لكن القبض عليه محال، كحال من يطارد "ملهّي الرعيان" المشاكس.

في استعار "الحليْويّة" في ليالي المدينة الخائبة، حين تبدأ خشبة عبد رويّح بالصهيل لا يعود بالإمكان معرفة إن كان عبد راضيًا عمّا يحيطه أو ساخطًا عليه. لا سبيل لمعرفة إن كان منتشيًا أو متألمًا. كل عضلة في وجهه، وجسده كلّه، تأخذ نصيبها من الاختلاج، وينزّ منه عرق غزير حتى في الچلّة، ويزداد جحوظ عينيه وكأنه يريد أن يطّلع على أسرار الوجود القصيّة بوضوح. أهو طيش يخصّه هو وحده هذا الارتعاد المنفلت ليبدو كأنه منتول، أم هي حكمة بالغة سامية؟ أيعرف عبد رويّح بخطيئتنا الأولى فحاول التكفير عنها نيابة عنّا عبر خشبة يحتضنها كما يحتضن صك غفرانه، أم أنه لم يعثر حتى موته في 24 ـ 6 ـ 1974 على قيمة ما يفعل، كأي فنان متمرّد؟ غاب عبد رويّح، وأظنه غيّب معه الكثير مما نحتاجه لنستسيغ جرعاتِ كلِّ يوم المرّة لنلطّف مسيرة كالحة حالكة اسمها الحياة. رحمك الله يا أبو نجم..

عرض مقالات: