هي رواية أقرب إلى الذاتية، انطلقت من الخاص إلى العام، لتسلط الضوء على تجربة إنسانية لها خصوصيتها، لكنها تحمل في طياتها أبعادا إنسانية وسياسية وايدلوجية، عابرة للجغرافية والزمن، إنها "ذكرأة" للروائي علي الحديثي.
من الأبعاد الحديثة للرواية، والتي أشار إليها الناقد جان ريكاردو في كتابه قضايا الرواية الحديثة هي "البعد العضوي"، أي حضور الكاتب في نصه بطريقة ما، مما يجعلها مستجيبة له، خاضعة لطبيعته.. وهذا ما يلاحظه القارئ في بعض الإشارات، التي تعمد الكاتب أن يلفت نظرنا إليها، على إن البطل السارد قد يكون الكاتب نفسه.
تميز النص، بوحدة الموضوع، وغياب الحدث، وتعدد القصص الجانبية، التي عضدت فكرة النص وقصديته، الذي هيمن عليه صوت واحد هو صوت البطل السارد الضمني "عمار"، البطل الإشكالي، الذي يعيش المتناقضات وتداعياتها بوعي قائم واحد، ويتعاطى معها برؤية متعددة الأوجه.
نقف في البداية عند العتبة الأولى للنص وهو العنوان، يقول رولان بارت صاحب نظرية موت الكاتب " لا يوجد عنوان لا يحمل آثار ايدلوجية ومعرفية موجهة تصب في مصلحة القصد في العمل الأدبي".. لذا نجد أن "ذكرأة" التي منحها الروائي أكثر من تعريف على لسان بطله، فهي الحقيقة المحضة التي تلاحقنا وتفرض جودها علينا، خارج حدود الزمان والمكان، كما في حوار البطل مع المومس فيرني "نحن نعيش بين كذبتين كذبة الأقنعة الجميلة وكذبة الحقيقة البشعة، فاخترنا الجمال ليس حبا به بل لتستمر الحياة فقط، أتعلمين لماذا يضع خالي صبيح سريره قرب مكتبته، أي علاقة خفية بين النوم والكتب؟ الكتب ترينا وجه ذكرأة"..وفي نص آخر يعرفها على إنها حتمية أقدارنا على هذه الأرض، وسر وجودنا وشقائنا، كما في هذا الحوار بين البطل وسلام "لا وجود لشئنا في قواميسنا.. جئنا.. وسرنا.. وسنصل بلا شئنا"..
وفي إشارة ثالثة لمعنى ذكرأة يصفها، بأنها الشعور بالألم والعجز عن قول شيء ليس له مفردة في لغتنا "في حياتنا الآم لم تجد لها اللغة حروفا لوصفها، حينها نتعذب مرتين مرة بالألم ومرة بعجزنا عن قول كلمة لا حروف لها، عندما نصل إلى تلك الكلمة المفقودة نلوذ بذكرأة"..
لكن بالمحصلة ذكرأة هي قرين سيئ، تستحضره ذاتنا من زاوية مظلمة قابعة في أنفسنا، هي ذكرى مؤلمة نحاول جاهدين تجاهلها.
هذه العتبة الجدلية أرادها علي الحديثي أن تكون بوابه لنصه المثقل بالأحزان والخيبات والخوف والأمنيات الضائعة، عبر تصويره حياة بطل مثقف عازف عن الزواج، يعيش حياة مضطربة بوهيمية غير مستقرة، لكنه في الوقت نفسه يعاني انتماءً قسريا للمكان وارتباطا مشيميا مع بلده العراق ومدينته بغداد، وبيروت محط رحال حبيبته ليلى، فقد أخذ هذا الانتماء مساحة كبيرة أغنت هذا المفهوم وهذا ما يطلق عليه بأدب التشيؤ، حسب تعريف القاصة ناتالي ساروت، أي التعلق بالأماكن والأشياء التي تحمل رمزية وجدانية للأبطال..
غاب عن النص وجود تنغيم للحبكة الدرامية فيه، وتشظي هرميته، على الرغم من تماسك بناءه الأفقي، وهذا من سمات الرواية الحديثة، التي يغيب عنها الحدث المحوري، وتفضي إلى نهايات مفتوحة عائمة..
لذا كانت ذكرأة اقرب إلى قص الهذيان، حيث شكّلت وحدة سردية، تداخلت فيها، المنولوجات الداخلية مع الانطلوجيا والرؤى الفنتازية، وتقنيات الارتداد والاستذكار، والمثالية الخيالية، التي اقتربت من الصوفية في بعض محطاتها.
"عمار" البطل الذي تردد اسمه لمرات قليلة على لسان ليلى، يسافر إلى لبنان في رحلة قصيرة، الهدف الأول منها، رؤية ليلى، والثاني قراءة مذكرات خاله صبيح، الذي شكل وجها آخر للبطل، ومثل تحويلة موقتة للهروب من ذكرأة، عبر اللجوء إلى هذه الشخصية التي تميزت، بأنها لا تخضع لسطوة ذكرأة لأنها استطاعت إيجاد وسيلة ناجعة للهروب منها، عبر تدوين سفر أحزانها وخيباتها في وريقات، هذه المذكرات شكّلت عملية تضمين قصصي هو أقرب إلى الميتا سرد، فتحت بوابة أخرى تنفس من خلالها النص، بعدما أوصدت أبوابه في النصف الأول منه.
تكشف لنا هذه المذكرات، بأن خاله المثقف الذي يعيش وحيدا مع كتبه وكأسه، كان ضحية لقصة حب فاشلة مع زميلته في الكلية سوزان أم ليلى في مطلع ستينات القرن الماضي، بعدما اتضح له إنها يهودية الديانة، وتخفي انتماءها هذا خوفا من التهجير، لتجيبه ليلى عن هذه المذكرات برسالة كتبتها أمها سوزان إلى خاله صبيح، تخبره بعضا من حقيقتها.
تفرد النص بأسلوب جديد ادخله الروائي على نصه، وهو وجود الملاحظات التي تمثل قطعا مؤقتا في سياق المتن، كان يشير فيه إلى تعمد السارد التضاد في ذكر الضمائر، وتحويل المؤنث إلى مذكر والعكس، وكذلك ضمائر المبني للمجهول والغائب..هذه التقنية عملت على تغيير مسار النص ليأخذ منحى فلسفيا هيرمونطيقيا.

تميزت ذكرأة كنص مفتوح :-

1- البطل الإشكالي: كل شخصية قصصية غير مستقرة ناقمة على محيطها، متذبذبة، تعمد على طرح التساؤلات الجدلية نحو علاقتها بالوجود والآخر، تمنح النص خاصية استقرائية، أطلق عليها الناقد لوكاش تسمية "البطل الاشكالي".. في هذا النص تمكن علي الحديثي من صناعة بطل كهذا بإتقان، مع السماح لشيء منه أن يكون حاضرا فيه، على الأقل على المستوى الفكري والرؤية المشتركة للواقع المعاش، فقد كان عمار يعاني انفصاما فكريا عن محيطه البيئي، الغارق بالحروب والانتكاسات والأزمات والنزاعات الطائفية.. وهذه الإشكالية قد وقع فيها أبطال النصوص السردية لأدب الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فاغلبهم كانوا يحملون هذه السمة السلبية اتجاه مجتمعاتهم المتخلفة، وان تباينت الأسباب والمعطيات..
لكننا نلاحظ إن البطل كان يعيش تناقضا آنيا في تعاطيه مع محركات هذه الحياة وثوابتها، فنراه يمارس الجنس مع مومس متزوجة دون علم زوجها، ودون أي شعور منه بالذنب، وفي مكان آخر يعبر عن رأيه في الدين بإيجابية عالية تصل حد الإيمان والتدين، يناقض سلوكه السابق الذي يتقاطع بشدة مع هذا المظهر الديني، كما في حواره هذا مع ليلى "ليلى أنا لا أؤمن بشي اسمه الإلحاد لاسيما في أرض العرب الإيمان بالله ليس قميصا نرتديه أو نخلعه وقتما نشاء ".
2- المقاربة الصوفية: طغت على بعض مفاصل النص نزعة صوفية قد تكون متوارية خلف تفاصيل تبدو بعيدة عن هذا المفهوم، لكن الروائي ابرز هذه النزعة بوضوح في مشهد الدير، الذي جمع عمار مع إيمان، حيث تداخلت فيه الرؤى وتوحدت رغم تقاطعها في بعض المحطات، لكنها صبت في مجرى واحد، وهو وحدة الأديان ووحدة الوجود، فاستحضار السفر الإنساني بدءا بعلاقة الإسلام في نشأته الأولى باليهود، وانتهاء بقصة حب عمار وليلى، مرورا بعلاقة الحب التي جمعت صبيح بسوزان، وتهجير اليهود من العراق، والحرب الأهلية اللبنانية منتصف سبعينات القرن الماضي، والحرب الطائفية في العراق.. كل هذا شكل كولاج اختلفت صوره لكنها توحدت في قصديتها، التي تشير إلى إن كل المسميات والانتماءات ماهي إلا عناوين فرعية وتشظي لحقيقة كبيرة وسامية وهي "الحب"، الذي يمثل الإنسانية والمواطنة والتعايش السلمي والاعتراف بالآخر، وهذا ما أراد الروائي إيصالنا إليه، وقد ضمنه في رسالة سوزان لصبيح "حينما عرفت بأن الحب هو أصل الأديان كلها وما هذه الطقوس إلا واجهات نؤديها كموظف في دائرة، ولكل دائرة قوانينها وضوابطها".
3- الخاتمة: من الملاحظ إن مفردة ذكرأة التي شكلت العمود الفقري للنص قد اختفت في النصف الثاني منه الا ما ندر، على الرغم من تكرارها المستمر في النصف الأول منه، وقد استعاض عنها الروائي بمذكرات صبيح ورسالة سوزان، لتكون بديلا لاستحضار ماض حزين ومؤلم عاشه الحبيبان في ظروف مشابهة لما يعيشه البطل لكن بصور وتجليات أخرى.. كانت الخاتمة تمثل استمرار لمتوالية عمليات الارتداد والاستذكار والاسترجاع، ومثلت تلخيص لفكرة وفلسفة الرواية، أشار فيها الروائي ولو من بعيد، إلى إن ليلى ماهي إلا إيقونة تمثل المرأة بكل تناقضاتها وتمثلاتها " الحب والغريزة، الوطن والغربة، الهوية والضياع"..
ليلى كانت رمزية مثيولوجية لسر وجودنا بكل جماله وشقائه، وقد حمل اسمها دلالة تاريخية نابعة من تراثنا العربي كمثال للمرأة العاشقة والمعشوقة حد الجنون.. لذا نجد إن خاتمة النص كانت عائمة مفتوحة على تساؤلات ونهايات أخرى، قد تفضي إلى قناعات جديدة، ربما تتشكل عند البطل بعد قراءة مذكرات خاله صبيح ورسالة سوزان، وبعد أن أدرك أن ليلى هي "حب" يمكن أن يتحول إلى كيان حقيقي، يمثل نصفه المفقود الذي غيبته عنه ذكرأة، بعدما فشل سابقا وعلى امتداد النص، بأن يصنع كيانا مماثلا يحتوي فيه هذه أل "ذكرأة".

عرض مقالات: