تندرج أغلب قصص "درب التبانة " للقاص المغترب عبد الرضا المادح ضمن أدب الكفاح المسلح والنضال الوطني. تتكون المجموعة من ست عشرة قصة، أطول القصص هي "درب التبانة "، أما بعض القصص فكانت ضمن القصة قصيرة جدا مثل:" نذر عاشقة" و" مَشهدْ" و"فراغ في النفق" و"عباس الفَوري" و"الوهم" و"عاشقة طيور الحب"، وكانت القصص الأخرى ضمن القصة القصيرة مثل:" الحجّار" و"الخبز وعبد الله" و"الدفان والحرب" و"موت في الظلام" وجرافة الموتى" و"زقاق في الحيدر خانة" و"وصائد البازنينو" و"لقاء في مزبلة ".
كان القاص يستخدم "الواقعية التسجيلية" ولم يكن بعيدا عن احداث هذه القصص، وهذا لا يتبين إلا للقارئ المراقب.
إن أحداث قصص المجموعة وقعت ما بين سبع وعشرين عاما، علما ان الأحداث لم تنحصر في مكان وزمن محدد لحركة أنصار الشيوعية، بل تعدت الأحداث إلى العاصمة بغداد ومدينة البصرة ومحلة كوت الحجاج والمدارس والاصدقاء والمعلمين والعلامات الفارقة مثل تومان وشخصية عباس الفَوري ومدرسة القبس للبنات وشارع الجزائر وأشجار السدر واليوكالبتوس وعاملة المدرسة الخالة أم عمران والمعلم غازي.

الــراوي العليم أنصارياً

هيمن الراوي العليم على القصص وتماهى كثيراً مع الشخصية الرئيسة ما عدا قصة "جرافّة الموتى " و"جدارية الاحلام" و"عاشقة طيور الحب" و"عباس الفَوري" و"الموت في الظلام" و"الدفان والحرب" وبالنظر للسياق العام نجد ان القصص تخضع الى علاقة مترابطة مع المؤلف، وإن هذا التماهي جعل الرؤية غير محايدة وهذا مبرر في خصائص الواقعية التسجيلية ما عدا قصة "الوهم" و"فراغ في النفق"، وبسبب استخدام الوصف الخارجي للموجودات المتحركة وسكونية الراوي العليم الذي هو البطل وهذا يعكس قدرة القاص على استخدام اكثر من اسلوب في السرد كما في القصتين "الخبز وعبد الله" و"لقاء في مزبلة" حيث يستخدم العودة الى الماضي "فلاش باك"، وفي ملاحظة مهمة وحسب ايدولوجية المؤلف وكما يراه هو في الادب باعتباره رسالة نبيلة لا تنفصل عن سلوك وأهداف المؤلف الإنسانية، حيث نجد بعض تساؤلاته يضعها بأسلوب ساخر لكي يشير الى مسألة ما كما في قصة "لقاء في مزبلة" وهو يريد توجيه الانظار الى الاهمال والتدهور الذي أصاب المدينة بعد 2003 .

درب التبانة.. درب النجوم المتلألئة
من شروط القصة التسجيلية هو الجمع بين السيرة الذاتية والتجربة العامة، أما عن القاص فقد توافر لديه الشق الاول لكنه لن يُمثل أي شخصية من شخصيات القصة ، فقد أخذ دور الراوي العليم الذي ينحاز الى أيدولوجية الفصيل أو المفرزة بكشف التفاصيل التي تدعم ذلك من خلال علاقة رفيقاته ورفاقه بأهالي القرى الكردية، وكذلك وصف الشخصيات الاقطاعية وقادة الاحزاب هناك التي تتعاون مع الربايا وجيش البعث الصدامي، وكذلك يكشف لنا القاص الفوارق الطبقية بين القرى الفقيرة والغنية، إضافة الى كشف التنوع العراقي باستخدام الاسماء أو أنوع الطعام المُحبب للمقاتلين وإن الحقيقة المؤثرة في كل ذلك نجدها في ان بعض الرفاق والرفيقات يناضلون كعوائل أي رفيق مع زوجته جنبا لجنب في النضال والكفاح فهذا بحد ذاته يرفع من شأن القضية التي يدافع عنها الشيوعيون بالرغم من كل المعاناة والالام وإن الأمل بانتصار قضيتهم العادلة حاضر ومجسد في شخصيات أخرى مثل الدليل "نوزاد الكردي " و"أهالي القُرى" وتعاطف المرأة الموصلية زوجة الاقطاعي وهي تزود المفرزة بالمؤونة وإن ما قيل عنها فهذا بحد ذاته يحتاج إلى تحليل عميق لتلك الشخصية كونها كانت راقصة في أحد ملاهي الموصل قبل زواجها من الرجل الاقطاعي .
إن القاص تعمد إظهار أحداث وإخفاء غيرها لتستحق أن تكون وثيقة تاريخية لكنه سقط في هنات غير ظاهرة قد أنقذها الجو العام وطبيعة أدب كهذا وتكافلية الاداء في عناصره البسيطة والعميقة الدلالة في آن، ومن هذه الهنات عطل سلاح الشهيد "أبو سرمد" وكذلك اتخاذه موقعا خلف شاهدة قبر قصيرة لا تخفي جسمه عن رصاص العدو إضافة الى أن القاص ذكر في إشارات على عدم الاستعداد الكامل لهذه المواجهة لطبيعة المكان المختلفة ، وكذلك حادثة وقوع أرنب في مصيدة وتغير لون فرائه البني –الرمادي، وهذا فأل غير حسن على عدم نجاح مهمة ضرب بيت "عزّو" في قرية "كرَيمة" ومجموعته، وإن من ساعد على الارتفاع المعنوي لمسار القصة هو إصابة "أبو سرمد"، ثم استشهاده ليدفن بين شجرة وضفة نهر وانضمامه الى قائمة شهداء نجوم درب التبانة "سار الركب بلحنه الالهي ليطوف فوق ارض السواد ويصعد بعيدا... بعيدا .. بعيدا... فتلألأت نجوم درب التبانة للفرح القادم ".

"الأنا" في "عاشقة طيور الحب"

في ظل الاسلوب العام الذي يستخدمه القاص في سرد قصصه يتكرر وبنظام جدلي مصغر سنجده في قصة "عاشقة طيور الحب" حيث نجده يبتعد عن الثيمات المباشرة ذاهبا باتجاه معادل موضوعي يوازي مسار الثيمات ويختزل الاسلوب بإيجاد علامات أخرى في استعارة تنتج نظام جديد من العلاقات الجمالية ضمن جدل يشف عن تساؤلات وإن كانت ليست بجديدة لكنها في ظل ثيمات المجموعة القصصية هي ضمن المنحى.
وفي العلاقة بين "طير الحب" الذي انزلق هاربا من قفص المرأة "عاشقة الطيور" والمحاولة الفاشلة لابن جارتها في استرجاعه من على أحد أغصان سدرة البيت الكبيرة فإن مساحة الجدل صارت واسعة بسبب التوتر الحاصل مابين الواقع والمؤلف. إن القاص عبد الرضا المادح أوجد الاسلوب السردي لموضوعاته المشوقة والممتعة دون أن يفقد صلة الوصل مع عوالمه، فمن الممكن أن نقول بحق "إن الرجل هو الاسلوب" وهذا ينطبق في المجموعة القصصية "درب التبانة ".

-  قدمها الاستاذ سالم محسن كمساهمة في الامسية الاحتفائية التي اقامها " منتدى جيكور الثقافي في البصرة " بتاريخ 12 – 02 - 2019

عرض مقالات: