كاتب وشاعر وناقد وفيلسوف ومثقف بارز منذ ثمانينات القرن الماضي، هرب من الجيش وتم اعتقاله فادعى الجنون أيام الحرب مع إيران وتوارى عن الأنظار ليعش حياة المجانين ويأكل وينام ويفكر على طريقتهم حتى يبعد الشك وهو يتقمص شخصية المجنون الذي تغض النظر عنه أجهزة الأمن القمعية.
لقد نأى عن الحرب والموت الذي كان مؤكداً في تلك الفترة، انه درس في التعذيب الجسدي والفكري، يصعب تحمله إلا باستثناءات نادرة ومنها كان الكاتب الراحل خضير ميري الذي فاجأنا برحيله المؤلم وهو في قمة عطائه الإبداعي، خضير ميري الكاتب والفيلسوف المولود في مدينة الناصرية عام 1964 لكنه عاش طفولته وصباه في العاصمة بغداد، انه الكاتب المدهش الذي لقب بابي سقراط والباحث عن المعرفة والأدب والمنقب في حقولها.
أصدر بداية التسعينات ثلاثة كتب في عمّان هي: الإشكالية والمعنى، في السؤال الفلسفي، عن دار الأمد عام 1993، والفكر المشتت، تعقيب على فوكو، وكتاب الجنون في نيتشه. واغتنم الراحل ميري فرصة إقامته في القاهرة لسنوات وأثبت وجوده الأدبي في مصر ونشر العديد من الكتب في النثر والشعر والرواية، منها "الذبابة على الوردة" وهي الرواية الثالثة له بعد روايتيه "ايام الجنون والعسل" و"جن وجنون وجريمة"، كما صدرت له مجموعة نثرية حملت عنوان "سارق الحدائق".
تعود علاقتي بالراحل ميري الى فترة الثمانينات، وبعد سنوات طويلة من المنفى التقيته في القاهرة بالصدفة فكان للقاء طعم العراق بنخيله وشمسه وبطيبة اهلنا.
دونت روايته الذبابة على الوردة لمرحلة مهمة من أهم المراحل الصعبة التي مرّ بها العراق اثناء الحروب المتتالية التي أحرقت الاخضر واليابس بطريقة مؤلمة، وأرخت لتلك المرحلة الصعبة بطريقة فنية لا تخلو من الذكاء الحاد الذي يتمتع به الكاتب، ان هذه الرواية يمكن لنا ان نصنفها الى عدة تصنيفات فهي تندرج ضمن عوالم الرواية العربية الحديثة التي تعتمد في تركيبتها وبنيتها السردية على الجمل الشعرية البارعة والتي تنقلك من صورة الى اخرى ضمن سياقات عالية التكنيك في الوقت الذي تحيلك الى عوالم غامضة وغريبة على القارئ والمتلقي، فهي تتحدث عن سيرة الكاتب أيام افتعاله الجنون من أجل الهروب من الحرب وويلاتها التي استمرت لعقود طويلة في العراق.
شهد الكثير من المآسي التي عاشها داخل مستشفى المجانين "الشماعية" لكي ينقذ روحه من الموت المؤكد في الحرب وان لم يذهب لتلك الحرب فسيكون السجن ومن ثم الاعدام هو مصيره المحتوم. ومن الممكن ايضاً تسمية الذبابة على الوردة بنص مفتوح على فضاءات جديدة غير مطروقة في النصوص العربية ولا حتى الشعرية الأمر الذي يجعل قارئ للرواية يصطدم بالكثير من المطبات الشعرية، وان كثرة وتشعب الأحداث التي جلها تتجه الى شخص الراوي الحبيسة داخل مستشفى المجانين، فكان يتحدث عن شخصه بالسلب والإيجاب من دون خوف، وهذا سر نجاحه في تلك التجربة التي وقف لها النقاد باحترام. ولا ننسى الجانب الفلسفي المحيط بالرواية، فقد أبدع غاية ابداع في اقحام الفلسفة داخل هذا العمل، كونه يمتلك ثقافة عالية تؤهله للخوض في هذه المطبات المعقدة التي خبرها منذ نعومة أظفاره وهو شاب يافع كرس قراءاته للفلسفة بطريقة مذهلة وتعمق فيها ولهذا أخذت روايته طابعاً فلسفياً وأضافت جمالية ورونقاً على سرده الروائي الذي هو بمثابة نقلة روائية جديدة في عالم الرواية العربية.
لقد سخر الراحل خضير ميري في هذه الرواية الجوانب الفلسفية التي يتقنها الى جنون مصطنع استطاع من خلاله ان ينجو بحياته من الموت المحتوم.

عرض مقالات: