في الصف الثاني الابتدائي، كان "أستاذ سامي" معلم درس القراءة ومرشد الصف أيضاً. شابا مهندما أنيقا، صاحب عينين زرقاوين، وأنفا رفيعا ومقوسا، وشعرا يميل الى الشُقرة. كان "أفندياً بحق وحقيق".
لمحني في أول أسبوع، وأنا أكتب "الوظيفة" فانبهر من كتابتي المستقيمة على خطوط الورقة، دون أن ينزل قلمي وتسرح الكلمات الى الأسفل كما يحصل في كتابات التلاميذ على صفحات دفاترهم. توقف فجأة وأمسك بالدفتر وعرضه على التلاميذ ليشاهدوا حسن "وظيفتي" ويتحسروا على معمار وظائفهم "حيّه ودرج"!
لم يكتف بهذا، بل دس أصابعه في جيب بنطاله الصغير وأمسك بعشرة فلوس وقدمها لي. والحق أن هذا التكريم لم يتوقف عند ذلك اليوم بل استمر في متوالية "عشر فلوسية" على مدى عام.
طقس "العشر فلوس" جعلني سعيداً جداً، ليس لأنني أفضل التلاميذ في كتابة الوظيفة، بل أغناهم في "يوميته" التي بلغت عشرين فلساً مقارنة بيومياتهم التي تتراوح بين خمسة الى عشرة فلوس، ناهيك عن جيوب "المساكين" الخاوية، من أبناء العائلات المسحوقة.
بعد أكثر من ثلاثين عاماً، عادت تلك "اللمحة" وارتسمت على ملامح المعلم العظيم مقرونة بابتسامة، لكنًّ انتاجها جاء من لحظة مغايرة في نهارات الحصار التسعيني. كنتُ أدخن سيكارة، وحالما مر من أمامي تحركت يدي لا ارادياً وأخفت السيكارة عن بصره. أدرك المعلم النبيه، وقد غدا عجوزاً، أنني أحد تلامذته دون شك.
ابتسم "أستاذ سامي"، وأحسب أنه مر بإعادة سريعة لشريط عمره، وانتهى بشعور غريب، جمع بين الفخر بمسيرته التربوية العظيمة، وبين مكافأة وطنه المجزية له في أواخر عمره.
لم يعد "سامي" ذلك الأفندي المهندم الجميل والكريم، بل شبح، جيوبه خاوية، ويقود "بايسكل بلا مداگر"، وخلفه "صندوق طماطة"، ولا يملك بيزة!
أستاذ سامي.. ما زلت أحبك، وما زلت قدوتي، وما زالت فرحتي "بعشر فلوسك" مبهرة وتساوي كل كنوز الدنيا.