لا شك أن الناقد جمال العتابي يتميز بأسلوبية واضحة، في دراساته وبحوثه النقدية، يتخذ منهجية في التحليل والتشخيص والتعريف بالنص الادبي المنقود، ويعمل في بحثه النقدي على مواصفات أدبية وثقافية وفنية في إطار الموضوعية، بقواعد وأصول التعامل النقدي مع النصوص. هذه المواصفات مكتسبة من تجربته الطويلة في الساحة الثقافية والادبية، مما أكسبه خبرة ناضجة في مخزونه المعرفي، وقدرته على دراسة وفحص محتوياته المضمونية والفنية للنص، في جوهر اكتشاف المضمون والمغزى التعبيري.. لذلك تعتمد دراساته النقدية في التحليل على خزينه المعرفي وتجربته وخبرته الطويلة وفطنته في اكتشاف محطات السلب والايجاب في النص، هذه المؤهلات التي يمتلكها، قادرة على التقويم النقدي الموضوعي ورؤيته المنهجية الواضحة، ولاشك ساعده كثيراً في تحليل النصوص الادبية، بأنه مارس الاشكال الادبية وبرع فيها، في القصة والرواية والشعر، اضافة الى أنه كاتب سياسي، يطرح موضوعات حيوية وحساسة في الشأن العراقي. لكنه يكرس جهوده وانشغالاته بقضايا تناول النقد الادبي، ما أكسبه براعة في اقتناص جوهر النص، بحذاقة التكثيف والتركيز، يقدم موضوعاته ودراساته النقدية، بأسلوب بسيط وسلس، لكنها تملك خلفية عميقة في الرؤية الثقافية والفكرية والفنية.
ودراساته في هذا الكتاب القيم "أفق مفتوح" يكشف براعة الناقد الموضوعي، في ابحاثه النقدية، وقد قسم كتابه الى ثلاثة محاور أساسية، هي في الجانب الروائي. وفي جانب الشعر، وفي جانب موضوعات أدبية مختلفة، لنقتنص عينة من بعض هذه المحاور.
* في رواية "فندق كويستيان" للروائي خضير فليح الزيدي. وهي تتحدث عن الوجع والمعاناة العراقي، في زمن الدكتاتورية، ونهجها الارهابي الخانق، تلك السنوات التي كانت عناوينها البارزة. الارهاب والحروب والحصار، وزنازين الموت والخوف ومصادرة الحريات وكرامة الانسان العراقي، الذي عاني ظروف الجحيم، والتنقل في المعاناة والبطش، مما تلاها فاجعة الاحتلال، وبروز امراض خبيثة اكثر من السابق. في الاحتقان الطائفي، وبروز الطائفية التي لعبت وتلعب بمصير العراق والعراقي، في الموت المجاني وفرهدة الاموال، وبروز عصابات الفرهود من رحم الاحزاب الدينية الحاكمة ، بهذه الاسلوبية النقدية، في كشف محطات الرواية، ليصل الى التحليل النقدي "حملت رواية فندق كويستيان" هاجساً يبصر فيه كاتبها عراق الحروب، وعقله يزدحم بالشك حول مغزى النظريات والافكار والسياسيات، ان لم تتمكن من حسر ذلك النزوع الحيواني الذي يحول كل شيء الى أداة للقهر والقتل ، فكأن فيه وحشة من العالم يستفز اعصابه ابداً وخوفاً، دائما من عدوان وشيك ما انفك يترقبه".
* رواية "تسارع الخطى" للروائي المرموق احمد خلف. تكشف في محطاتها في التعبير السرد الروائي المتنوع، مدى التعسف الظالم الذي يواجهه الانسان الاعزل، في استباحة وانتهاك حريته ظلماً، ومدى احباطه من مميزات الحياة، بالهزائم والانكسارت والاحباطات المتوالية فوق تحمل طاقته، وتؤكد هذه المعضلات الفراغ الفكري في الواقع، وسيطرة عصابات الخطف والاستلاب على خناق الحياة، يؤشر هذا بالاندحار وتراجع الفكر، في الايديولوجيا والسياسة، وفشل الحركات الثورية، وحلت محلها العصابات الظلامية، التي سمحت بكسر عزيمة الانسان وجعلته يعيش في ازمة حياتية خانقة مع نفسه ومع المجتمع، وتنطلق الرواية من هذه المنطلقات، في بحث قضية الانسان المنهزم والمحبط، في الاستبداد والاضطهاد وظلم القاهر، وخاصة بعد التغيير عام 2003، التي بها اصبحت حياة الانسان لعبة، تتحكم بها القوى الشريرة وعصابات الظلام، في دخول الانسان في مأزق حقيقي في كل جوانب الحياة، يقدمها الروائي احمد خلف بتداعيات متنوعة، وبأسلوب سردي مرهف بدرامية الاحداث المتلاحقة، حتى الدخول في كوابيس الاغتصاب او الخطف، وفي مطاردته من قبل قوى خفية وغير خفية، لكي يقع في شرنقتها الخانقة، واحداث السرد الروائي، لا تدع القارئ يلتقط انفاسه، لذلك يشير الناقد في دراسته النقدية "يضعنا احمد خلف منذ البداية، امام حالة معقدة ووضع مربك في حوار خافت بين الفتاة والمختطف، أثناء الليل حين يزحف القتلة واللصوص نحو النوم، بأسئلة متلاحقة منها ما لا يجد له جواباً، كان المختطف يسمع صوتاً في داخله، واصواتاً اخرى تنفذ اليه، وهي تحمل خلفها قصصاً، تحمل تراجيديا مظلمة، فتملكه شعور متأرجح يترقب ساعة الخلاص من الاسر، ومخاوف وشكوك في حقيقة نوايا الفتاة، لم يشأ المختطف أن يطوي الوقت في فك أسرار تساؤلاته حتى جاءه الصوت منادياً: لا تلتفت الى الوراء عليك ان تصغي الى تسارع الخطى" ويستخلص في النهاية "تسارع الخطى كشف لواقع الدمار، لا تكتفي الرواية بعرضه، وانما في تحليله الى اشارات معرفية، على مستوى الذاتي بما يعنيه من وعي ومعرفة واحساس، وعلاقة وحلم ورغبات ، انها مجاهدة للارتقاء بهوية".
* رواية "جثث بلا أسماء" للكاتب إسماعيل سكران. تقدم في براعة متناهية، أخلاقيات أزلام النظام الفاشي المقبور، في شخصية النقيب "سامح" هو رجل الامن والنظام، المسؤول عن تعذيب السجناء السياسيين، اما تحويلهم الى مستشفى المجانين بأنهم مجانين، او رميهم في مقالع الازبال كجثث مجهولة الهوية. وكان هذا البلطجي "سامح" يد النظام الضاربة في البطش والتنكيل، في شخصية مازوخية. يكشف عنها الناقد بدقة "لم يكن سامح راضياً عن نفسه كلياً في اعماقه، عن عمله ، على تقبل واقعه العملي، متعللاً بإغراءات السلطة والمنح المالية، التي يغدقها عليه المنصب، فيتجاهل مثالبه ، مهدئاً نفسه بالفاليوم نهاراً والخمر ليلاً" ولكن بعد سقوط وانهيار الدكتاتورية، فر مع الهاربين، فلا أثر لسامح لقد فر مع الفارين بانهيار الدكتاتورية، ويستنج الناقد المحصلة النهائية للرواية فيذكر "لقد حاولت الرواية ان تصور مرحلة، هي من اخطر المراحل في تاريخ العراق الحديث، واكثرها قلقاً وسوداوية، وهذا سر ما لحق الشخوص في الروية من نهايات فاجعة، وهو ما يؤهل الرواية، كذلك ان تضاف الى سلسلة الروايات، التي تحكي الوجع العراقي عبر العقود الاخيرة من الزمن".
* رواية "التيس الذي انتظر طويلاً" للروائي رياض رمزي. وهي تتناول شخصية الدكتاتور "صدام" وجنونه في حب العظمة، في تجنيد الاعلام وحشد طاقاته، في صرف الاموال الطائلة، لكي يضفي على شخصيته المريضة، صفات العظمة والقدسية، وفي استغلال امكانيات الدولة في هذا الشأن، حتى لم يسلم التاريخ والتراث الشعبي في اعلامه بخدمة الدكتاتور، وهي في حقيقة الامر ضياع الوطن، وتبديد الاموال دون وازع ضمير، كما هي الحال في تبديد حياة ارواح البشر بسهولة، في تراجيديا كوميدية، على شقاء ومعاناة الوطن، بالضبط كما يصفها الروائي في حصاده الروائي "التيس الذي انتظر طويلاً"، في اسلوبية تنتج قوة العبارة والوصف، في كشف اسرار الدكتاتور، ووضعها على المحك في اسلوب ساخر ومتهكم. كأنه بطل عالمي بدون منازع، ويقول الناقد في تحليله "تنتمي الرواية الى مكان واضح الملامح، فهي لا تبتعد عن هواء العراق ورياح السموم فيه، وفيضاناته وكوارثه، ومواجعه، وحروبه، وجوعه، وموته، وشتائه وقيظه، ومقاهيه وشوارعه: شارع ابطال الامة، وشموخ الوطن، بلادي الحبيبة، مطعم صخرة الوادي، مقهى حراس الوطن... الحانات، الساحات، الملاهي، دور السينما، وعيد العزة القومية، التي تؤلف كلها لوحة خلفية لما يجري من احداث" ويضيف في استنتاجه "يحرص الروائي على متابعة المسار التاريخي لأحداث الرواية، بلغة اعارها الروائي اهتماما لافتا، كعنصر مهم من متطلبات السرد، لتأكيد القيم الجمالية في اللغة، انها مهارة أجاد فيها كل الاجادة ، ليضع لنفسه موقعاً متميزا في هذا اللون، فتبدو الرواية كأثر فني في جمال العبارة والصورة ترتقي الى لغة الشعر".
* رواية "ما بعد الجحيم" للناقد حسين سرمك.. تطرح الرواية السؤال الكبير، ماذا بعد الجحيم في مأساة العراق؟ يؤكد الناقد في تحليله النقدي "منذ اللحظة الاولى ينصب اهتمام حسين سرمك على خلق الجو المعادل للجحيم ، شعرت بالخوف منذ تلك اللحظة أن اواصل القراءة بهذا المستوى من السرد. تولد لدي احساس قوي بواقعية الاحداث ومأساويتها.. وانا لا ازعم أني امتلك الشجاعة على تحمل تراجيديا جديدة.. فأتساءل مع نفسي الى أين سيمضي بنا سرمك" ويشدد في التساؤل "نحن ضحايا تراجيديات الكون... ألا يكفي ما حل بنا.. وتحقق هاجسي الاول فعلاً..... حين واصلت متابعة احداثها خطوة فخطوة، تيقنت أنني احتاج الى لحظات توقف... استراحة استطيع فيها ان استعيد توازني.. والتقط أنفاسي من شدة التوتر الذي تخلل الحوار والسرد في اجواء الرواية" ويستنتج من خلاصة هذا العمل الروائي الكبير بأن "الرواية ابتعدت عن نمط روايات الحرب التقليدية". ولكن مع الاسف لم اجدها في المكتبات في شارع المتنبي، لأن نسخها بيعت جميعا. كما قالوا لي"، وفي الرأي النقدي "والرواية تكشف عن موقف شجاع وجريء للكاتب حسين سرمك من الاحداث التي عصفت بالعراق .. هذا الموقف احد اهم عناصر نجاح الكاتب وموضوعيته واخلاصه لفنه ولذاته التي لم يساوم عليها سرمك على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها الآن خارج وطنه..... يرنو اليه منتظراً اللحظة التي يعود بها معانقاً أهله واحبته وأرضه".
* قصائد رشدي العامل، كلمات تولد في معبد الجمال: الشاعر رشدي العامل. ينتمي الى جيل السيّاب، فهو الشاعر والانسان المناضل الجسور، الذي ينتمي الى تيار اليسار، لذا فإن قصائده فيها مذاق الكفاح الشرس للطبقات الشعبية الكادحة، في نضالاتها المعطرة بالكفاح والدماء ومناطحة الحياة الظالمة دون هوان، فهو الحارس الامين في الدفاع عن الحق والعدالة ضد الظلم والاستغلال والاضطهاد، كما هو الحارس الامين لتوثيق المراحل العاصفة التي مرت على تاريخ العراق السياسي، والذي اتخذ من الشعر خطابا لمخاطبة الشعب:
الشعر طريق مجهد
يبكي ، ويجوع يغازل ربته في معبد
الشعر الاسود
عيد يكسر قيداً...... طفل يتمرد
ويستنتج الناقد من منجزه الشعري "تظل قصيدة رشدي العامل، مفتوحة على آفاق متعددة بلا خطابة، ولا رومانسية نواح تتذرع بحساسية زائفة وحنان وجدان مكرر، بل صور شاسعة الافق، ذات ايحاء داخلي تتجدد بصور مدهشة، وتنمو مع كل مقطع جديد".
أنت لا يأخذك الحزن
على ما مات من اشجار ماضيك
ولا يفرحك القادم من عمرك
أنت اليوم حر
ويشخص رموز الشاعر بقوله "إن رموز العامل في صوره الشعرية، هي مصائر الانسان في تطلعاته العليا، تأتي عبر أبنية شعرية داخلية الايقاع، منداة بطراوة الصور، رغم مأساوية الموضوع الفاجعة، لكن اغراس الورد في تلافيف من اجل ربيع الانسان الجديد، تتوهج في ثنايا غناء العامل المتعددة الأصوات، والشاعر يوحي بذلك إيحاءً رائعاً".
وكان الموت، لن يطفأ في عينيك، ومضة
لن ترى أهدابك السود، عيونه
عبثا مخلبه يمتد
أو ترنو عيونه
لحقول الذهب الاصفر
في وجهك يا بيدر فضة
وبقية الموضوعات النقدية الاخرى، جديرة بالتوقف. انه كتاب غني، لا يمكن ان يستغني عنه المثقف والاديب، لأنه يتوسم التحليل في النقد المعاصر.

عرض مقالات: