طريق الشعب (خاص) لندن

قدم المقهى الثقافي العراقي في لندن في أمسيته في ٢٢ شباط ٢٠١٩ عرضا سينمائيا للفيلم العراقي الوثائقي الطويل "مرايا الشتات" للمخرج قاسم عبد الذي رحب به السينمائي علي رفيق باسم المقهى ودعاه ليقول كلمته في فيلمه فكانت قصيرة جاء فيها :" ليس لدي كلمة بالواقع وانما ارحب بالحضور وأتمنى لهم مشاهدة ممتعة لفيلمي "مرايا الشتات " وأرجو ان ينال رضاكم .. وأود القول ان من الأشياء المهمة لنشاط المقهى الثقافي أنه نشاط مستقل ، غير حكومي ، وغير سلطوي وهدفه الأساسي دعم الإبداع ونشاط الفنان المبدع، لهذا من دواعي فخري ان أشارك في هذه الأمسية للمرة الثالثة في فعاليات المقهى الثقافي أتمنى ان تكونوا معي في تحية المجموعة التي تشرف على ديمومة هذا النشاط ، واسمحوا لي باسمكم ان أحييهم لما يقومون به من عمل مهم في دعم الثقافة العراقية ".وأضاف الفنان المخرج عبد :" يوجه لي على الدوام سؤال مفاده : لماذا إخترت السينما ؟ فأجابتي تكون إنني لا أعرف أن أقوم بعمل في حياتي سوى الإشتغال في السينما ، وأحاول تقديم أفضل ما أستطيعه من أجل إيصال المتعة والمعرفة للجمهور ..ومن دواعي سروري ان أدعوكم لمشاهدة فيلمي وسأكون مسرورا للحوار معكم وسماع وجهات نظركم فيه ".

قاسم عبد ( مخرج الفيلم) وحكاية فيلمين:

كنت أعرف الفنانين (عفيفة لعيبي، علي عساف، جبر علوان، رسمي الخفاجي، فواد علي عزيز، كاظم الداخل، بالدين احمد) بشكل جيد. كنا قد درسنا في نفس الزمن في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتركنا العراق في منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى نكمل دراستنا في الخارج. بالنسبة لي، كانت دراسة السينما هدفي وحلمي، أما أصدقائي فكانت الفنون التشكيلية والرسم غايتهم، وقد نجحوا في ذلك، وأنتجوا الكثير من الأعمال الفنيّة في مجال الرسم والنحت و"الفيديو آرت" والتصوير الفوتوغرافي والغرافيك والخط العربي والملصقات الجدارية إلخ. كنا طوال السنين الماضية على تواصل، ونعرف تفاصيل حياة كل منا. بالنسبة لنا جميعا، فأن عملنا الفنيّ يعكس بوضوح من نحن، ومن أين أتينا، كما يعكس ملامح هويتنا الثقافية والإنسانية.

لؤي عبد الأله ( كاتب وروائي ومترجم – عراقي يقيم في لندن):قراءة سينمائية

الوقوف أولا عند عنوان الفيلم "مرايا الشتات" :الإنتقال من حالة المنفى الى الوطن المتبني ..من الوطن الأم الى الوطن المستضيف .بعكس فيلمه السابق عن نفس الفنانين "وسط حقول الذرة الغريبة" يعكس قدرا من الأمل بالعودة الى العراق.

في الأفلام التي شاهدتها لقاسم عبد أتلمس الجهد الحثيث بتحويل ما هو عادي ورتيب في الحياة اليومية الى خط سردي متناغم يقترب من خط الأسطورة عبر اللقطة التي تشبه النوتة الواحدة التي يتركها الموسيقي على ورقته بانتظار النوتة الثانية وبالتراكم يتحقق العمل الموسيقي الذي يعطي انطباعا ان كل شيء كتب دفعة واحدة . هنا في هذا الفيلم تداخل متواصل ما بين الحاضر والماضي ، عبر تعقب وجوه الفنانين المستعارة من فيلم قاسم السابق "وسط حقول الذرة الغريبة" في لقطات قصيرة تمنحنا شعورا بأن هناك وراءنا يقف لص ظريف خفي لا نراه ولا نعرف انه موجود.

البناء الدرامي للفيلم :بعكس فيلمه "همس المدن " الذي يختفي الحوار تقريبا منه وتحل الكاميرا الصامتة لتستثير العاطفة والأسئلة في نفس المشاهد عبر ما يمكن تسميته بـ"الدلالات" هنا يصبح الحوار الذي يأخذ أشكالا متعددة تتراوح ما بين الإعتراف والمناجاة والتذكر والتأمل ، ولكن يصاحب الحوار لقطات متفرقة يربطها خيط السرد القصصي نفسه، لذلك فإن ذاكرة المتلقي هي الأخرى تستفز لإسترجاع تجربته بشكل ما ، إضافة الى تلمس العالم الذي يعيش فيه الفنان أو العالم الذي يسترجعه في حديثه. ليس هناك أسئلة تطرح على الفنانين ولكن الفيلم يسير على شكل شبه دائري متنقلا بين الفنانين للإجابة عن سؤال محدد، وأحيانا تنكسر هذه الدائرة فيعود أحد الفنانين الى الظهور ثانية بعد ثلاثة أو أربع مساهمات مع فنانين آخرين .

الثيمات الأربع التي يدور حولها الفيلم :

 الثيمة الأولى :  مقاربة الفنانين والتعرف على مشروعهم الحالي وما يطمحون الى تحقيقه في مشروعهم القادم .وهذا يساعد المتلقي على التعرف على كل فنان وإسلوبه وما يميزه عن غيره ، أي بصمته التي نجح في تشكيلها بعد سنوات كثيرة من العمل الفني في المنفى.

الثيمة الثانية : العلاقة بالوطن : بالنسبة للفنان التشكيلي الذي يشده العالم البصري المحيط به هناك دفع متواصل عن عالم وطنه البعيد في الذاكرة (بعكس الروائي) لكنه في الوقت نفسه يبقى الماضي عنصرا مغذيا  الذاكرة ، ويختلف من فنان الى آخر .

الثيمة الثالثة :الحياة الشخصية للفنان : مدى تفاعله مع البلد المتبني. مدى تفاعل حياته الخاصة على أعماله الفنية .

الثيمة الرابعة: كيف كان تأثير التغيير السياسي الذي ترتب بعد الغزو الأمريكي – البريطاني في العراق على الفنان نفسه. هل منح الفنانون فرصة لحفظ أعمالهم في متاحف مخصصة للفن الحديث مثلما كان الحال مع فناني أسبانيا وتشيلي بعد إنتهاء الحكم الدكتاتوري فيهما؟ أو منحوا فرصة للمساهمة في مشاريع فنية ما؟

الفيلم ينجح في تجنب الوقوع بمطب المباشرة وإستدرار العاطفة وينجح في مزج الصورة المتغيرة القصيرة المكثفة التي تخاطب العين والحديث الذي يخاطب الأذن ، في خلق سرد درامي مقتضب ومكثف ، يمكننا تلمس عنصر التصعيد الدرامي فيه خطوة خطوة.

هذا الفيلم عينة تتجاوز حدود التوثيق بقدر ما هي تسعى الى منحنا القدرة على ملامسة مدن عديدة يعيش فيها الفنانون :مالمو، روما، فلورنسا ، لاهاي.. الحياة اليومية لهم ..علاقتهم بالمحيط :الناس .. كيف تركت المدن نفسها بصماتها عليهم .

تعدد الدلالات التي يحملها الفيلم تسمح لتعدد التأويلات لدى المشاهدين من شخص الى آخر.. وهذه نقطة تحسب للفنان قاسم عبد ..فالإنطباع الذي يتشكل لدى المتلقي أن هناك فريقا كبيرا ساهم في إنتاج هذا الفيلم وبميزانية ضخمة ،لكننا نتفاجأ حينما نكتشف إن صناعة هذا الفيلم من ألفه الى يائه قام بها شخص واحد وبميزانية شديدة التواضع : كتابة السيناريو ، التصوير، المونتاج، كلها من عمل الفنان قاسم عبد.

صفاء صنكور (ناقد سينمائي عراقي – يقيم في لندن) قراءة سينمائية:

يقترح الفيلم علينا أكثر من مدخل لقراءته وهذه المداخل يمكن أن تتوزع في عدد من الثنائيات : العلاقة بين الواقع والفن، بين الوطن والمنفى أو المهجر، بين التمثيل والمرجع الواقعي، بين الهوية وتحولاتها

وأدوات التعبير السينمائي بين السينما والرسم أو الفن التشكيلي عموما.

.(Biopic)،بين الفيلم الوثائقي والسيري

في الثنائية الأخيرة أرى أن قاسم لم يهتم بتقديم الفن التشكيلي في فيلمه بوصفه فنا يبحث في جمالياته بل إستخدمه أقرب الى "الدليل" الذي يؤكد من خلاله آراء وخلاصات وخيارات شخصيات فيلمه. وهنا أقارن بين تعامله مع اللوحة في فيلمه الأول " وسط حقول الذرة الغريبة "(أنتجه في مطلع تسعينات القرن الماضي) وفيلمه الآخر "مرايا الشتات"(أنتجه عام ٢٠١٨ وعاد فيه الى نفس الفنانين ) ففي الأول كانت كاميرته تتحرك داخل تفاصيل اللوحة في حركة ( بان أو زووم إن أو زووم آوت) في محاولة لخلق إيقاع جمالي يعتمد على الحركة داخل اللوحة ويدعمها بإستخدام موسيقى تصويرية مناسبة ومثلا على ذلك تصويره لوحات الفنانة عفيفة لعيبي ، حيث إنطلق من تصوير الناي داخل إحدى اللوحات مع موسيقى الناي في الموسيقى التصويرية ، ليحلق في تفاصيل وأجواء لوحاتها الجمالية. أما في "مرايا الشتات" فلم يستخدم هذا الإسلوب بل لجأ الى تصوير اللوحات كاملة والقطع من لوحة الى أخرى عبر المونتاج. وكأنها إنعكاسات خارجية أو مرايا عنها تظل أمامنا دون الغوص في تفاصيلها وعوالمها.

أما بنية العنوان بين الفيلم فعبارة " وسط حقول الذرة الغريبة" كانت إستعارة ربما من قصيدة لجون كيتس أو بشكل مباشر من سفر روث (راعوث) في العهد القديم ، الذي يتحدث عن الشتات والغربة والحنين الى الوطن ، لكنه في الفيلم اللاحق إنتقل الى التأمل في قضية الغربة والوطن والحنين من خلال انعكاساتها فجاء العنوان " مرايا الشتات" .

وهنا لابد من التركيز على المقارنة بين الفيلمين وتحولات الفنانين السبعة خلال نحو ثلاثة عقود تقدم لنا وثيقة رائعة ليس عن خيارات الفنانين حسب، بل خيارات الانسان العراقي في واحدة من أخطر اللحظات في تاريخ العراق الحديث.. ولا بد لي من الدعوة الى ان نكثف الدراسات النفسية والاجتماعية وشتى الإتجاهات المعرفية الأخرى لدراسة أنفسنا وما جرى للأنسان العراقي خلال تلك الفترة الحرجة ، وصولا الى استنباط كامل العبر منها وتحديد مسارات إنساننا وسط صيرورة هذا العالم بالغة التعقيد.

ان واقعية قاسم وتعلقه بتقديم اليومي والعادي والمألوف ، تتجلى في تعامله مع الفن ، فهو لا ينشغل   representation بقضية التمثيل

بل يحاول ان يقتطع لنا مقاطع من الواقع نفسه، ومثالا على ذلك تركه نصب الكاميرا اثناء تصوير فيلمه السابق " بعد السقوط" فيدعها تسجل كل شيء وتوثق بحيادية ، لكنه في النهاية يحاول أن يجمع كل هذه التفاصيل العادية واليومية والمألوفة ليخلق منها عملا ملحميا ، وبعمله هذا هو يقترب من الشاعر ويليامس كارلوس الذي واجه تحدي ت.س. أليوت وعزرا باوند ، بكل استعاراتهما الجمالية والثقافية والأسطورية العالية وبكل البلاغة الصورية المتفوقة لدى باوند مثلا ، ليعود مترسما عمل "يوليسيس" لجيمس جويس فيخلق لنا ملحمة شعرية عمادها تفاصيل واقعية يومية وعادية ومألوفة.

بعد العرض رحب مدير الأمسية بأحد أبطال الفيلم والذي حضر عرض اليوم قادما من المدينة الأيطالية فلورنسا وهو الفنان التشكيلي العراقي رسمي كاظم الخفاجي..ثم كانت مداخلات الجمهور من بينها:

الشاعر عواد ناصر :شكري مناصفة للمقهى الثقافي وللفنان قاسم عبد ففي فيلمه هذا حقق واحدة من أهم مزايا العمل الفني المتمثلة بما يضيفه العمل الفني للمتلقي ، فأغلب الفنانين المشاركين في هذا العمل ،أصدقائي أو أعرفهم شخصيا ، لكن الكثير من المعلومات وطريقة تعاملهم مع الحياة وأساليبهم الفنية قد تعرفت عليها اكثر الآن  من خلال عمل قاسم..بالإضافة الى ما وفره من متعة كبيرة..أكرر شكري له وإعجابي.

الكاتبة إبتسام يوسف الطاهر: وجدت أجمل ما في الفيلم إختيار قاسم للموسيقى .. سؤالي هل انت اخترتها ؟ أم هناك احد ساعدك يالإختيار؟ الموسيقى التصويرية كانت جدا موفقة ورائعة جدا ..

بعض المشاهد أحسست عبرها إنك قد رسمت لوحات وشاركت أيضا الفنانين الذين قدمتهم في الفيلم بلوحات تصويرية .. شعرت وكأن تلك المشاهد هي لوحات أكثر مما هي لقطات سينمائية .. ثم وهناك مسألة أخرى ينبغي عليّ قولها انني شاهدت الفيلم وكأنه عدة أفلام فهناك عدة موضوعات مكثفة في فيلم واحد ..في مساحة هائلة مكثفة لكل من الفنانين وخاصة الفنانة عفيفة لعيبي فقد شعرت بأنه فيلم واقعي فني بعيد عن الدراما وانا اشكرك جدا  وأتمنى لك كل التوفيق .

قاسم عبد: الموسيقى انا من إختارها من خلال ثقافتي الموسيقية البسيطة ، وبعد ان أختار الموسيقى التي أرغب في مصاحبتها لفيلمي أشتري حقوق إستخدامها وهي جزء آخر من هذا العمل الفرداني الذي أمارسه في انتاجي .. وهذا ينطبق على كل أفلامي التي أشتغلها لوحدي لسبب بسيط هو إنني أعتمد على نفسي ولا أعتمد على غيري كما لا أعتمد على تمويل.. سوى اني أعتمد على غيري بالجزء الذي لا أستطيع تنفيذه بنفسي .وأقول بصراحة ان أغلب افلامي أبدأ بها ولا أعرف اين ستأخذني مادتها .. فأنا اصور وبالتدريج أعمل على مسار الفكرة وتبدأ عناصر بنائها وأعملها على طاولة المونتاج .. وانا أحب السينما الوثائقية لأنها تعطيني إمكانية التجريب. وأفلامي غالبا ما تشبهني ولا تشبه أي أحد آخر.

الفنان النحات ناظم : بدءا أود القول ان تجربة قاسم الشخصية تعطينا أجمل درس في مسألة الوفاء للفن والفنانين من خلال متابعتنا لما ينتجه ويبذل من وقت وجهد لفنه السينمائي ..حول فيلم اليوم لديّ ملاحظة بسيطة فهو أولا يتميز بالتلقائية البسيطة ويوصل الفكرة بدون تكلف وبدون تزويق ..اعتقد ان هناك متطلبات للفيلم الوثائقي وأهمها مسألة وقت الفيلم .. وفيلم اليوم يكاد يكون طويلا نسبيا وفق ما نعرفه عن الفيلم الوثائقي فكان بطيء الأيقاع وهناك تكرار ناتج عن تشابه ما يمر به الفنانون من ظروف بحيث ان أغلب أحاديثهم تكاد تكون متشابهة الى حد ما ، مما اعطى نوعا من الإطالة نحن لسنا بحاجة لها ..بتقديري كان يمكن الأستعانة بوجود تعليق على الفيلم كان من الممكن ان يتجاوز الإطالة وهذا أسلوب للأختصار .. أضافة الى نقطة أخرى أود ان ألفت النظر لها هو اني شخصيا أحسست اني وصلت الى نهاية الفيلم في موضع ما لكني اتفاجأ ببداية جديدة لا أعرف اين الخلل في ذلك ؟ هل هوفي بنية العمل ام الخلل عندي كمتلقي  ...؟ انا أفهم ان سيناريو الفيلم الوثائقي يحتوي على بداية ووسط ونهاية .. لكن يبقى العمل الذي شاهدناه اليوم هو توثيق رائع جدا  لجهود فنانين مميزين على الساحة الفنية من ناحية ومن ناحية ثانية فهو فيلم رائع يشكل حلقة تواصل جديدة في انتاج الفنان المبدع قاسم عبد .

وأنتهت الأمسية بتجمع الحضور على المنصة وهم يحيطون بالفنان قاسم معبرين عن تهنئتهم له وتقديم شكرهم له.

 

عرض مقالات: