في روايتين رائعتين للكاتب المبدع عبد الكريم العبيدي هما "الذباب والزمرد" و"معلقة بلوشي" يتضح جلياً تطور المتن السردي العراقي وقابلية الحكي المرسل بروح شاعرية وانسيابية وشفافية عالية ولغة مكثفة بعيدة عن الترهل وأساليب البلاغة القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب.
ولمّا كانت الرواية قريبة العهد في المشهد الثقافي العراقي الذي كانت بداياته في عقد الخمسينيات من القرن المنصرم على يد اثنين من أساطين السرد العراقي فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان فان عبد الكريم العبيدي والعديد من الروائيين يعتبرون امتداداً لهذا الارث القليل من العطاء في ميدان الرواية كجنس ادبي قريب العهد بهذا الفن الراقي حيث يقال من لم يكتب رواية كانه لم يكتب شيئاً البته لعوالمها الفسيحة ولا بعادها السياسية والاجتماعية وهيكلها المعماري الذي يتسع لسرد طويل يتطلب الحنكة والدراية والدربة.
تناول عبد الكريم العبيدي، من مبدأ تأصيل العمل الروائي ونقله الى الواقع الحقيقي، الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العراق ابتداء من الحرب الايرانية الى احتلال الكويت الى الحصار المرير والتجويع الخطير وسياسة التركيع والقمع الممنهج تحت ظل حكم فردي تسلطي وما رافق ذلك من تنكيل بالقوى الديمقراطية حيث شهدت السجون العراقية حفلات اعدام جماعية وحملات تعذيب اسطورية اكثر بشاعة من عهد "الجستابو" واكثر قسوة من اي نظام دكتاتوري سابق، هذا في رواية "الذباب والزمرد"، اما الرواية الثانية "معلقة بلوشي" فقد تناول حالة انسانية ومكابدة اجتماعية قاسية الا وهي تشظي الهوية بين الانتماء والواقع والظروف المحيطة بهذا الاقلية التي سكنت مدينة البصرة وعاشت في كنفها واصبحت جزءاً منها.
وبين الاحساس بالغربة والاغتراب وعدم الانتماء والولاء او هكذا تعتبرهم السلطة الفاشية والمجتمع العشائري القبلي.
سوف لن اتناول الشخوص التي حرك مسارها الروائي بقدرة فائقة على تمثيل الادوار ففي الرواية "البوليفينية" حيث تعدد الاصوات يصعب الامساك بكل التفاصيل إلا من خلال الاحداث التي رافقت هذه الشخوص كرموز حقيقية على صعيد الواقع.
لقد تطور الاسلوب السردي كثيراً من حقبة الخمسينيات وكان لروائيين مبدعين امثال برهان الخطيب وعلى الشوك وابراهيم احمد ومحمد سعدون السباهي ولطفية الدليمي وسعد محمد رحيم دور مهم وانجاز كبير في هذا السياق يمثل انزياحا جاداً عن قوالب البلاغة الجاهزة والانشاء الذي لا يفضي الى شيء. إضافة الى كل من علي بدر واحمد السعداوي وعبدالله صخي.
ان تجديد المتن السردي، كان جلياً وواضحاً في روايتي المبدع عبد الكريم العبيدي اذ تمكن الروائي من اضفاء معايير جدية على بناء المفردة والجملة الموسيقية، اذ انها بدت كشعر منثور ينساب كالماء الدافق ولا يوقفه شيء، مما يجعل القارئ يتابع بشغف كبير ومثير عالم الرواية وهي تحمل طوفاناً من المشاعر والمواقف المركبة والأزمنة المتداخلة، حيث يسبق المعنى اللفظ وتكون المفردة الدالة والجملة التي تمتلك ايحاءً مميزاً يعبر مفازات الرؤى نحو نبضات الافق المضاء.
لقد استطاع عبد الكريم العبيدي ان ينقل رؤاه الى رؤى متعددة وزوايا مختلفة، كأنما هي حياته الحقيقية وذاته الخفية التي كانت جزءاً من الاحداث ككل لا ينفصل.
إن هندسة اللغة اصبحت من اعمدة السرد الحديث حيث يكون ملائمة المفردة وموائمة الجمل عملاً مدهشاً في إظهار المقدرة التي يتمتع بها الروائي كناقل للواقع عبر تقنية احداث انسجام حقيقي في فصول الرواية، لتبدوا نسيجاً زاهياً ومبدعاً ومتكاملاً بلا اعتوار أو ابتسار.
ان ثقافة الروائي واطلاعه الواسع وخزينة المعرفي ساعده على هذا الانثيال والبوح المرسل في سرد متين وبناء مكين، نقل الرواية الى حيز الواقع في بناء متدفق للعبارة والجملة توضح امكانيتهُ اللغوية والبلاغية التي وظفها لتجديد البناء السردي الحداثوي وليتمكن بالتالي من الربط بين الذات والوطن والماضي والحاضر، في عالم من المشاعر والمواقف المضطربة تتبادل مواقعها وتأثيرها عبر الامكنة والزمن.
إن تجديد المتن السردي وانتاج المتن النصي الحداثوي منذ بدايات ارهاصات الحداثة شكل إضافة مهمة في سياق التطور الهيكلي والبناء المعماري للعمل الروائي ونقله ابعد من حدوده الجغرافية لما يتضمن من حمولات مجتمعية وتأريخية تركت علامات مؤثرة على تضاريس العمل الابداعي.
ويمثل عبد الكريم العبيدي أحد الرهانات على تقديم المنجز الابداعي في قالب سردي ينم على الحصافة والثقافة وعلو كعب الروائي اللغوي الذي أثرى الرواية بعوالم الدهشة والفضول، في عرضه محنة الانسان العراقي في ظل نظام تعسفي قمعي شمولي محنة مبدع تهيمن عليه فكرة الحرية والعدالة في وطن مزقته الحروب في بحث دائب عن القيمة والجوهر الحقيقي للحياة.