يوم يشبه باقي أيامنا الأخرى، لكنه كان يخبئ لنا غرابة بقيت عالقة في اذهاننا الى ايامنا هذه، مضى اسبوع على تعيين ابنتي ومباشرتها العمل في احد مراكز البحوث في الباب المعظم، الأيام الأولى للتعيين تحمل مصاعبها وقلقها ، كنت اسكن في قطاع 15. في صباح شباطي غائم كنت قد انهيت تنظيم وكالة في الباب الشرقي واستقللت تاكسي متجهاً بي الى ساحة 55 حيث دائرة التسجيل العقاري، كانت السيارة من نوع برازيلي حمراء، قبل ان نصل الى القناة، اشارت الساعة الى الحادية عشر صباحا، فوجئنا بانتشار عسكري وحزبي والكل مدجج بالأسلحة، منعت سيارتنا من عبور القناة، استغربنا أنا والسائق من الامر، رأيت احد الحزبيين يتوسط مجموعة، عرفني من بعيد لأنه كان جار لي في القطاع ذاته ، سلم علي وسمح لنا بالمرور، ولم اتمكن من الاستفسار منه، وصلنا الى ساحة مظفر، احاطتنا من كل مكان سيارات المخابرات والامن وهي تمر بسرعة البرق.. واغلقوا الطريق المتجهة نحو ساحة 55.. اقتربت منا سيارة هاربة مثلنا ونحن نسلك الطريق المؤدية الى شارع خير الله.. سألنا سائقها عن الامر؟ أجابنا "يقولون ثورة أشعلوها اهالي الثورة "، قال الكلمة الاخيرة وهو يشير الى طوابير السيارات العسكرية المتجهة نحو المدينة! واضاف: يقولون ان "السيد الصدر قتل"، وأضاف ان مصلين تجمعوا في جامع المحسن وبدأت هتافات ضد الحزب والثورة، ثم هاجم المصلون دوريتين للشرطة، انزلوا من فيها واستولوا على اسلحتهم وأضرموا النار في السيارتين"!
هذا الامر فسر لي سحابة الدخان التي رأيتها حالما نزلنا من جسر القناة... فكرت أن أترك سيارة التاكسي وأكمل طريقي الى البيت سيرا على الاقدام، لكن فجأة تذكرت ابنتي وهي الجديدة في عملها ولم تتعود بعد على الطريق في الظروف الاعتيادية! طلبت من السائق ان يتجه بي الى باب المعظم، في تلك اللحظة هيمنت سحابة سوداء على المشهد وبدأت السماء تمطر بقوة. امتزج صوت الرعد مع اصوات القنابل والرشاشات، ابتعدنا، حالنا حال السيارات الهاربة من علوة جميلة وهي تسلك شارع خير الله الذي ازدحم بسبب المطر وهلع السواق... فكرت: اذا كان الامر حقا ثورة كما سماها السائق، فمن المؤكد ستتخذ حكومة "القائد الضرورة" اجراءات انتقامية وسريعة كما جرى في انتفاضة 1991!
وصلت الى باب المعظم، ركضت باتجاه مبنى المستشفى علني الحق بها، سألت امرأة تنظف في الغرفة التي تعمل فيها ابنتي، قالت خرجت قبل ربع ساعة، إذن استطيع أن الحق بها، اتجهت الى الكراج وانا اطالع الوجوه.. كانوا يسيرون بهدوء. والسيارات في الكراج تنادي:"جوادر، داخل"، اذن لم يصل الامر الى مسامع احد.. ركبت سيارة من نوع "ريم" مكتظة بالركاب وبدأت تزحف وهي تتجه نحو "المدينة القنبلة"، لم يكن احد يعرف بما حدث سواي، لكني سمعت همساً بين راكبين بجواري يقولون ان "السيد نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال وهو يرقد الآن في المستشفى"، قال الاخر:" ياحسافة، ولكن ماذا سيحدث لو توفي السيد"؟ قال الآخر:" الله اعلم ربما سيحدث انقلاب يطيح بالنظام". لم اتدخل في الحديث الهامس بين الشابين اللذين توقعا ما سيحصل، وحالما وصلنا جسر القناة وجدناه مقفلا امام السيارات ومفتوحا امام المشاة بعد تفتيشهم ورأيت جارنا مرة اخرى واقفا في المكان نفسه، لم اسلم عليه، سرت ناحية ساحة مظفر واخترقت ازقة المدينة من قطاع الى قطاع حتى وصلت الى قطاع 15... بقيت واقفا بباب البيت ارى الناس تركض والهلع يسيطر عليها واصوات زخات الرصاص تتعالى حينا وتهدأ حينا اخر.. "بدأت عملية الاعتقالات...."، قالها احد الشباب وهو يركض واضاف:" يعتقلون كل من يسير في الشوارع العامة"، رأيت ابنتي في اول الزقاق وهي تسير، تضرب رجلا برجل من التعب والخوف والرعب.
ضد النسيان.. 19/ 2/ 1999
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 1659