يحفظ سياج السطح حوارات التنوير السريّة السبعينية، يعكس صدى أهزوجة سلام الصباحية التي كان يتغنى بها، وهو يهز قبضة يده، كلما شاهد ابن جاره صويحب يهش على سرب طيوره بعصا طويلة مربوط بطرفها خرقة سوداء، مرددا، من حين الى آخر:"عاع.. عاع"، لإبقاء "جوگة" حمائمه محلقة لمدة أطول.
كان صويحب يصغي بتلذذ، كلما أنشد "سلام"، عن "قصد":
"مَيلن، لا تنگطن كحل فوگ الدم
مَيلن، وردة الخزّامة تنگط سم
جرح صويحب بعطابه ما يلتم".
محاضرات السطوح اليومية تلك أفضت، بعد أكثر من عام، إلى لفت أنظار صويحب إلى ما هو أوسع من عشق "جوگة" حمائمه. تعاليم جديدةٌ مدهشة دفعته الى الاعتقاد بأنَّ الإنسان يمكن أن يغيّر وجه الحياة. يبدع وينتج ليقهر مظاهر الاغتراب في ذاته، وذوات بني جلدته، ويعانق العالم بقواه المستحدثة، ويتوحد معه!
لأول مرة يعرف صويحب الأمي، أن بمقدوره الانتقال من حالته البائسة تلك إلى الحالة المدنية لمجتمع منظم، فيه أحزاب ونقابات ودولة قانون، ويكون "صويحب المطيرچي" جزءاً من حراكها، لأنه سيتغيّر أيضا في مجري التاريخ، ويحوّل نفسه في عملية خلق الإنسان الجديد بقدرة العمل!
ظل صويحب يسرح طويلا مع طيوره ويتساءل: كيف يمكن لـ "مطيرچي"، أميّ، أن يتحول إلى إنسان منتج، يحقق جوهره في العملية الإنتاجية، ويندرج في علاقات إنتاج مع أقرانه، ثم يتطور من خلالها كطاقة حيوية خلاّقة، ويعانق العالم الموضوعي بواسطة قواه الذاتية الفاعلة!؟
ذلك ما كان "سلام الأحمر" يزقّ مسامعه به يوميا على مدى أعوام، مثلما تزق حمائمه "اللـــگط"، من "دِخِن" لأفراخها الصغار داخل برج صويحب.
لم يعق هذا الضلع بالذات سعي "الأحمر" الحثيث، طيلة أعوام، في فاصل تنوير عقل الفتى "صويحب المُطْيَرچي"، الابن البكر لجاره، وحثه على الانخراط في حملة محو الأمية ليتعلم القراءة والكتابة ويجتاز محدودية معرفته التي لم تكن تتجاوز سياج السطح والحمام و"الدربونه" ليغدو انساناً فاعلاً، يطالع الصحف والمجلات والكتب، وينتج.
هذا ما كان عليه "ابن الجيران". الشاب الجامعي الذي يكتشف أبناء محلته من جديد، ويقرأ بؤس حياتهم وواقع حال عائلاتهم، ويشعر بمسؤولية ثقافية وأخلاقية لبنائهم ثانية، ليزداد دورهم في بناء الوطن، وليكتشفوا ذواتهم ومواهبهم من جديد، تماما مثلما اكتشفه الطالب الجامعي "سلام الأحمر" بعد انتمائه "العلني" الى الجامعة، و"السري" الى منبع المعرفة والجمال.