تضم المجموعة القصصية "اريج افكاري" للقاص فلاح العيساوي باقة من القصص القصيرة جداً لأوضح ما فيها من نصوص تناصت مع آيات من القرآن لتثبت للمتلقي كيف ان واقعنا المعاصر يفرز امورا تتشابه الى حد ما مع الامور التي أفرزها الواقع في تاريخنا الممتد الى اعماق قصية عبرت عنها بعض آيات القرآن، لأنها اقتنصت امرا ما جرى في الواقع الذي تتحدث عنه الآية، أو السورة القرآنية.
والتناص هو آلية، او مجموعة آليات، يمكن من خلالها ان نتعرف على المفاصل التي تربط نصا بآخر مجايل له او سابقه في الانشاء والتأليف، لان لا شيء جديد تحت الشمس، والنصوص الادبية خاصة تتوالد الواحدة من الاخرى، او تقترض امرا ما منها، أو تحمل بين طيات كلماتها جينات وراثية عن النص الاقدم او المجايل له.
هناك خمس قصص قصيرة جدا من مجموعة "اريج افكاري" تناصت في نهايتها، او ما تسمى بـ "الضربة النهائية"، بآية من القرآن.
من المعروف عند دارسي القصص القصيرة جداً، ان هذه النصوص تحمل مفارقة تضم ما يدهش المتلقي ليس كطرفة ما وانما لما تحمله هذه النهاية من مفارقة صادمة لما في كل القصة من موضوع او افكار بعيدة عنها.
ونصوص مثل "تاجرٌ" و"تحطيم" و"خضراء..." و"عُسرٌ" و"قدرٌ" ستكون على منضدة الدراسة للفحص والتحليل، كي نتوصل الى مفاصل التناص بين هذه النصوص وبين آيات القرآن لمعرفة المخزون في ذاكرة القاص الابداعية من نصوص سابقة لكتابته هذه النصوص، وكذلك معرفة ثقافته ايضاً، ونوعها، لنصل الى قراءة دقيقة لتوجهاته الفكرية، والاجتماعية، والاخلاقية.
يقول نص "تاجرٌ":"عِندما زادَتْ أموالُهٌ، زادَ عُجبُهُ وافتخارُهُ، فأصبَحَ مُولعاً بشراءِ البشرِ والنفيسِ.
حاولَ إغراءَها وامتلاكَها، وضعَ أمامَها الذهبَ والمجوهراتِ الثمينةَ...
- متى سوف تقبلينَ بي زوجاً وحبيباً؟.
ابتسمَتْ قائلةً: إذا ولجَ الجملَ في سَمِّ الخياطِ".
نحن نعلم ان أي تاجر حقيقي عندما تزيد ثروته يظل يبحث عن زيادة أكثر ايضا، الا ان تاجر النص عندما زادت ثروته اخذ يبحث عن "شراء" البشر والنفيس من الاشياء.
ربما علقت في ذاكرة القاص حكاية يرويها الناس عن القروي الذي يحصل على المال، فإنه يتزوج بامرأة ثانية، او يشتري حصانا، او بندقية، وهي ثلاثة اشياء مدمرة له في حياته حسب مفهوم التفكير الجمعي للمجتمع، فأخذ القاص موتيفة "الزوجة الثانية" وراح يبحث عن امرأة تحبه ليتزوجها، فوجدها، واشترى لها المجوهرات لإغرائها بأن تكون حبيبته او زوجته، الا انها ترفض وهي تردد الآية القرآنية بصيغة لغوية غير صيغة القرآن: "إذا ولجَ الجملَ في سَمِّ الخياطِ".
القرآن يذكر:"إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ".
وقد كان القاص مبدعا في استخدامه هذا الجملة.
وولوج "الجمل"، وهو حبل السفينة الغليظ، في ثقب ابرة الخياط من المستحيلات، كما ورد في القرأن، لانه من المستحيل ان يدخل الذين كذبوا بآيات الله الجنة، وفي الوقت نفسه من المستحيل ان تكون هذه المرأة من نصيب هذا التاجر.
نتساءل: هل تناصت هذه القصة وما افرزه الواقع المعاصر من امور سلبية؟
اذا كان النص السابق قد تناص لا ارادياً مع موتيفة حكاية شعبية عراقية، ومع احدى آيات القرآن، فإن النص الحالي يتناص مع واقع المرأة الزانية، ومع آية قرآنية في قصة مريم.
فالواقع العراقي الذي تطفو على سطحه بين الفينة والاخرى امور كثيرة منها ما حدث في نص "تحطيم" اذ تحاول المرأة الحامل من خلال الزنا ان تسقط جنينها بأي طريقة كانت، وعندما يسقط تردد وهي فرحة/ حزينة "يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا"، أي انها نادمة، لان بقاء الجنين في بطنها تحدث الفتنة الدينية والاجتماعية.
وكان نص "تحطيم" يذكر:"منكبّةٌ على وجهِها، تزفرُ الألمَ بقوّة، تحاول إزاحةَ حملٍ ثقيلٍ سقط فوقَ ظهرِها ساعةَ التيهان، تنهضُ ضاربةً على بطنِها المتخمِ، تعتلي ظهرَ السّريرِ...
تقفزُ بلا هوادة، ساعةَ سقوطِه صاحت:
"يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا".".
فقد تناص هذا النص مع القرآن في موتيفة التمني التي وردت في سورة مريم والتي تشير الى انها تمنت لو كانت ميتة ولا يحدث هذا الشيء.
نتساءل: هل تناص هذا النص مع ما افرزه الواقع المعاصر من امور سلبية؟
في قصة نوح القرآنية، وعند الطوفان يهرب ابنه ليلاقي حتفه غرقاً، بعد ان ناداه ابوه ان يركب معهم الفلك الا انه يرفض.
وفي قصة "خضراء..." التي نصت على ان البطلة كانت:"تلعبُ، تلهو، تضيع، لا تعرفُ اختيارَ الطّريق، يقطفُ ثمارَها الغرباءُ، يتدخّلُ في سبيلِ إنقاذِها، يرى اقترابَ الغرقِ، يصيحُ بها:
- هلمّي معي.
تصرخ، اتركني والطّوفان...فارَ التّنّور".
ترد في نهاية القصة عبارة تناصت مع قصة الطوفان القرآنية، ليس لان القصة تذكر عبارة "فارَ التّنّور" فحسب بل ان هذه العبارة تناصت مع الطوفان الذي حدث لنوح، بعد ان ضاعت امرأة القصة في دروب الحياة الواسعة.
"حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل".
نتساءل: هل تناص هذا النص مع ما افرزه الواقع المعاصر من امور سلبية؟
في نص "عُسرٌ" الذي يقول:"جاءَها المخاضُ، تذكّرَتْ تلكَ الليلةَ التي لا تُنسى.
حبسَتْ أنفاسَها، صاحَتْ القابلةُ، تنفسي بقوةٍ، وادفعي بالتي هيَ أحسنُ، ظنَتْ أنْ روحَها تَخرجُ معَ كلِّ دفعةٍ، لعنَتْ تلكَ الليلةَ.
وضعوه في أحضانِها...قالَتْ: الأنَ حصحصَ الحقُ".
نجد النص قد تناص مع قصة يوسف، حيث تقول امرأة العزيز بعد ان اولمت وليمة لصويحباتها:"الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين".
واذا كان موضوع النص يختلف كليا عن موضوع قصة يوسف فهذا ليس معناه ان العبارة التي استخدمها النص لا تفيد نص القصة بشيء بل انها تعطي معنى ودلالة رمزية كبيرة.
الشيء الاخر الذي استخدمه النص ليتناص مع نص اخر في مفصل مهم من القصة هو عبارة "وادفعي بالتي هيَ أحسنُ"، وهو تناصها مع آية في سورة النحل تقول "وجادلهم بالتي هي أحسن"، وقد غير لفظ في العبارة وهذا من ابداعات الكاتب في اختياره للغته حيث لا يتجمد الماضي في الحاضر حرفياً.
اما ثالث مفصل تناص به النص مع القرآن فهو استخدامه للفظة "المخاض" في العبارة التي تقول "جاءَها المخاضُ"، والقران يذكر العبارة التالية "فأجاءها المخاض" مجيء المخاض، ومفاجئته لها.
يبقى النص حاملا لمفاصل ثلاثة يتناص بها مع النص القرآني.
نتساءل: هل تناص هذا النص مع ما افرزه الواقع المعاصر من امور سلبية؟
في نص"قدرٌ" الذي مفاده:"بَدأَ الشكُّ يساورُها كثيراً، خروجُه بعدَ الضُحى وعودتُه قبلَ منتصفِ الليلِ خلافُ عادتِهِ المعروفَةِ، حجَجُهُ غيرُ مقنعَةٍ، قررَّتْ اكتشافَ سرِهِ، خَرَجَتْ خلفَهُ، تبعتْهُ خطوةً خطوة، وقفَتْ تنظرُ إليهِ ودموعُها تسيلُ على أسيليها.
هو يقفُ على الرصيفِ يعرضُ بضاعتَهُ المزجاةِ".
الواقع العراقي صعب جدا بكل اموره الرئيسية وحيثياتها الجانبية، وقد اصبح اكثر صعوبة في السنوات العشر الاخيرة. وفي هذا النص تكتشف الزوجة ان زوجها يبيع اشيائه القليلة، "المزجاة"، إذ ان اللفظين الاخيرين التي تنتهي بهما القصة تؤشر الى مفاصل التناص بين هذه القصة والنص القرآني في قصة يوسف حيث اصابت المجاعة عائلة يوسف فعرضوا بضاعتهم المزجاة امام يوسف.
فإذا كانت قصة يوسف في القرآن تذكر ان الاخوة عرضوا بضاعتهم امام يوسف وكانت قليلة، فان رجل القصة هذه كان كل يوم يعرض بضاعته القليلة ليبيعها ليسد رمق عائلته فتكشف زوجته امره.
نتساءل: هل تناص هذا النص مع ما افرزه الواقع المعاصر من امور سلبية؟
بعد هذه القراءة التناصية للنصوص التي كانت ميدانا للدراسة والفحص، وتساؤلاتنا الخمسة التي سأتركها للقارئ اللبيب ليجيب عنها، أتساءل مرة اخرى: ماذا تؤشر تلك القراءة على المستوى الاجتماعي والفكري؟
القراءة هذه تؤشر على المستوى الاجتماعي ما يلي:
- هي قصص بطلتها امرأة من هذا الواقع المعاصر المأزوم.
- المرأة هذه متنوعة المشارب والاتجاهات الا انها تبقى امرأة تفكر وتعمل كالنساء.
- المرأة هذه قوية بحيث تعرف ما تريد فعله ان كان عليها او لها.
اما من الناحية الفكرية، فقد اشرت هذه القراءة الى:
- اهم ما تؤشر له هذه القراءة هو امتداد تأثير نص قيل قبل 1400 سنة في كتاباتنا المعاصرة، في كتابات القاص فلاح العيساوي، ليس بنقل هذا النص او عبارة منه نقلا حرفيا، او غير حرفي، وانما الفكر الذي يحمله النص او العبارة فيه، حيث نجد ان واقعنا المعاصر يفرز امورا وقضايا هي نفسها قد برزت في تاريخنا السابق الاسلامي، او قبله.
- تؤشر هذه القراءة الى الثقافة العامة لمنشيء النصوص "الكاتب" وهي ثقافة قرآنية، وهذه الثقافة قد استخدمها الكاتب بصورة جعلت الامور والقضايا التي يفرزها واقعنا المعاصر ماثلة للعيان دون ان يسحبها الى ماضي النصوص المتناص معها، فتكون نظرته لتلك الامور نظرة ماضوية لا تقدم حلا معاصرا لما يطرحه الواقع من قضايا معاصرة.
- ان نهوض نصوص قصصية على اكتاف نصوص قرآنية هو مكسب كبير للنصوص المعاصرة في ان تستخدم ما فيها من طاقة خلاقة في تقديم نفسها على انها نصوص ابداعية وتثوير ما في النصوص من طاقات، ان كانت في اللغة او الافكار، التي تقدمها تلك العبارات اللغوية المستلة من النصوص القديمة.
هكذا يتعامل القاص المعاصر مع واقعه المأزوم في طرح قضاياه المتأزمة في نصوصه من خلال لغة استخدمتها نصوص سابقة لها تمفصلت معها، وبأفكار جديدة عن النصوص القديمة.
لا اريد من قراءة هذه النصوص الا القراءة الظاهرية، التي تأخذ بظاهر النص ،وتقدم ما فيه من معان ودلالات، وليس قراءة تأويلية، تستبطنه من الداخل بتعابير مجازية ومحتويات رمزية تأخذ القارئ في لجج بحور مظلمة، بل سأترك له حرية فهم النص كما يحب ويرغب، لان ذلك ليس من واجبي، وليس من مهام هذه الدراسة.