تعد رواية "كم أكره القرن العشرين" من الروايات السياسية، وذلك لوجود اشارات واضحة لبعض الشخصيات السياسية وكذلك الاحداث التي تدور في فلكها الرواية وهي مرحلة الحرب العراقية – الايرانية وما تمخض عنها من تغيرات دراماتيكية، كما ابتعد الروائي عن أسلوب الرواية التاريخية ليركز على "التاريخ الحي في وعي الانسان العراقي" واعتمد في جعل السارد شخصية تمثل احدى الاقليات التي تعيش في المجتمع البصري وهو "مولو" البلوشي.

القرن الاصفر

في روايته الثالثة "كم أكره القرن العشرين" يقدم الروائي عبد الكريم العبيدي رؤية انسانية تدين الحروب ويمكن حينما نضعها مع رواية "حفر الباطن" تكتمل تلك الرؤية التي ترفض مآسي الحروب بعيدا عن شرعية المقاومة وأدبها الانساني، ففي القرن العشرين الذي اطلق عليه العبيدي "القرن الاصفر" وقد جسد عنف التاريخ في هذا الزمن حيث الحروب الكونية الاولى والثانية وضياع فلسطين وحروب الابادة الجماعية في اكثر من مكان في العالم "في حروب القرن العشرين، تمت إبادة أكثر من 175 مليون انسان... هذا قرن المجازر المروعة، المجزرة الأرمنية في تركيا، مجزرة رواندا، مذبحة سربرنيتسا، مذبحة صابرا وشاتيلا، المذابح في كمبوديا، مذبحة حماة، مذابح سيفو، مذبحة سميل، مجاعة هولدومور"!
أليس من حق العبيدي ان يضع قبرا ولونا اصفر على غلاف روايته ويعنونها بكلمة الكراهية؟ فالعبيدي كان يحتاج "لرأس بحجم مآسي القرن العشرين كي يتمكن من فك طلاسمها".
والرواية تحتاج الى الصبر والتأني في مطالعتها فهي ليست للتسلية ان لم تكن رواية فلسفية وفكرية عميقة توفر وجبة دسمة في مجال السرد او ما بعد السرد! وتقع في 435 صفحة.

ما بعد السرد

اختار الروائي أسلوب ما بعد السرد وهنا أتقن الروائي ميزة المرونة في عملية الكتابة وهو يجسد معلقة بلوشي، شخصية بصراوية من أصل بلوشي، تتوارث العائلة مهنة الريافة وهي من المهن المتوارثة "لكنها تورث العمى" بطريقة دائرية عبر عناوين أطلق عليها مصطلح يستخدم في عالم الطائرات المنكوبة "الصندوق الاسود"! تبدأ الرواية بتنفيذ وصية الشخصية الرئيسة "مولو" لشقيقته بعد تسلم هذه الاكياس التي تحتوي على ما يشبه مذكرات مولود البلوشي الى ما يطلق عليه الكاتب "الملك الضليل" ! يستلمها الكاتب في أربيل ويمضي في قراءتها يجسدها في نص روائي عن حياة مولود وما صاحبها من مآسي الحرب العراقية الايرانية طيلة ثماني سنوات، "ميا" الطبيبة شقيقة مولود وزوجها الكردي اللذين يقيمان في هولندا هما من يستلم من الكاتب هذا العمل بعد زيارته هولندا وفي هذه الجزئية يستخدم العبيدي براعته في تصوير الحياة والامن والأمان والطبيعة الجميلة والزهور والانهار والجسور في هولندا في محاولة لمحو مدى الاذى الذي تعرضت اليه مدينة البصرة خلال الحروب وهو يرى تشابها كبيرا بين البصرة والميناء الهولندي الذي زاره في نهاية الرواية بعد ان نتعرف على مصير "مولود" البلوشي حينما تنتهي قصة حياته، وهو يسلب من جثة صارم "الزنبور" مفردة تستخدم عن الانضباط العسكري والعداوة القائمة بين "الفرار" الهارب من العسكرية "مولود البلوشي" وابن منطقته الانضباط "صارم "! يسلب منه حاجاته الشخصية ويستغل تشوه الجثة ليضع في جيوبه القرص وباقي حاجات مولود البلوشي حتى يعتقد الجميع بإن الشهيد هو مولو البلوشي!

مدينة ظلمها التاريخ

اهتم الروائي كثيرا بالمكان واعطى للبصرة حيزا من الرواية على لسان مولود ومذكراته ، فتأتي البصرة بالمرتبة الثانية كشريك في بطولة الرواية بما تحمله من رمزية الحدث كونها كانت في مواجهة ايران تعرضها للقصف المتواصل والنزوح والهروب من الموت "البصرة مدينة فقدت سحرها مطاحن الحرب, وطمرت أنسها أغبرة المعارك، وفي سكون موج مصفوع بالقذائف كهذا يرعرعه لحن شجي لبصرة تنزلق بخفة إلى درجة ما تحت الصفر،لا سبيل بعد الان لإدامة إغراء وهم السبعينيات في رأسه، بين أوجاع مدينة مريضة في طريقها إلى الهلاك".

الرواية مجموعة علاقات

من الملامح التي تميز رواية "كم أكره القرن العشرين" للروائي عبد الكريم العبيدي هو ان الرواية لا تمثلها مجموعة الاجزاء او العناوين التي وضعت على تلك الاجزاء بل هي رواية مجموعة من العلاقات التي يتحدث عنها مولود البلوشي! ويمكن ان نفتح الرواية على اي فصل او جزء منها ونقرأه ونجد المتعة فيه! وعند الانتهاء من الرواية لا بد من العودة الى قراءة البداية لفهم النهاية – كما ذكرنا - فهو الاسلوب الدائري - المستخدم.

رقعة الوعي

يؤكد "أوثر" في حديثه عن مرحلة تيار الوعي الذي تنتمي اليها هذه الرواية قائلا" ان رقعة الوعي تمتد عريضة وعميقة وصولا الى حالة اللاوعي" وتجسدت هذه المقولة في الرواية بعدة مواقف يحاور فيها مولود البلوشي نفسه "المونولوج" ففي الجزء الخاص بلقاء مولود بصديقه مضر "ضابط المخابرات" واصطحابه معه في البارات والملاهي تكثر حالات اللاوعي عند مولود وهو يشارك رجال الامن والمخابرات جلسات السمر والسكر ويستمع الى احاديثهم الماجنة! وتشتد حالة اللاوعي حينما يقرر مضر الانتقام لصديقه من الانضباط المزعج لعائلة مولود والذي كاد ان يصل بسببه الى الاعدام،عندما ينقل صارم بتوصية من مضر من سرية الانضباط الى الوحدات القتالية، يحاول ارضاء الضباط بإقامة ولائم وليالي حمراء تشارك فيها شقيقتاه "نهوده ونهلة" وبتخطيط من مضر يفاجأ مولود في احد بساتين ابو الخصيب ببيت منعزل وجوده مع نهلة ونهودة لقضاء ليلة داعرة ، خمر ورقص، وجنس، عندها يأتي دور اللاوعي وهو يخاطب جده "بالأجاني": "في لحظة بارقة اشار عبيجل بكفيه.دعانا إلى النهوض، ثم إلى الرقص في وسط الصالة، على إيقاع أغنية "الجوبي".. نهوض جماعي مفاجئ، ورقص بلا أحكام، بلا أصول، ترافقه صيحات وضحكات، وضرب جماعي خفيف على مؤخرتي "نهلة ونهودة"...ثم انتهى الرقص بأغرب مشهد مثير، مشهد مدروس ومبيت، وقف مضر خلفي، ثم تبعه صاحبه البدين وهو يسحب عشيقته نهلة مسك الثلاثة بنا، انا ونهودة، وراحوا يهزجون من خلفنا...عريس وربعه يزفونه. مولود وربعه يزفونه.. البلوشي وربعه يزفونه، حدق مضر في مؤخرة نهوده المهولة، ثم قال، وهو يهم بإغلاق الباب"اريدك أن تبلي جيدا على السرير، لا تدعيه ينام دقيقة.. أنتما. والواحدة ظهرا من نهار الغد مفهوم؟ كلللللوووووووش...".

المونولوج الداخلي

"هزمتك يا صارم في لعبة الهارب والزنبور... هزيمة ستذكرها جدران ذلك البيت، وغابة النخيل المحيطة به، وشقيقتاك العاهرتان. لعبة انتهت". ويتكرر هذا الشيء حينما يساق لتنفيذ حكم الاعدام ويشمل في آخر لحظة بالعفو فيكون الناجي الوحيد من مجموعة الفارين والمحكومين بالاعدام، كما يحدث حينما يقف على جثة صارم بعد ان قام "بتحريف احتيالي" اولا يفكر بجعل جثة صارم مجهولة الهوية "لا أصل ولا فصل، تماما مثلما وصفتني عائلتك مرارا.ألست بلوشيا؟ البلوشي بنظركم ليس مواطنا. هو وأسرته وأقاربه لفو بلا حسب ولا نسب... لا يتشرف به ابو رواء- حبيبة مولود اراد خطبتها فرفض اهلها لأنه بلوشي- لأنه لا يمكن أن يرقى بنظره الى رجل نسيب،كيف لبلوشي مثلي أن يغدو نسيبا شريفا معروفا حسبه؟
لكنه لم يكتفي بالقاء حاجيات صارم في الحفرة بل سوف ينتقم لنفسه ، بفكرة تدميرية مجنونة ويجعل من صارم مولود البلوشي – الشهيد البلوشي-" هوية بلوشية رسمية من الرأس الى القدم، بلوشية بكل انكساراتها والتباساتها وأوجاعها وتاريخها وجنوبيتها، منحتها لك عطيه ما من وراها جزية"

سميوطيقية الغلاف

وانا اقرأ الرواية كثيرا ما اتأمل العلامات الاختزالية لغلاف الرواية وقوة التصميم، فالغلاف له دلالة على المعنى والمغزى الكلي للرواية، غلاف الرواية منتج لرمزية العنوان "كم أكره القرن العشرين".

عرض مقالات: