ما أكثر ما تعالج قضية المسابقات الادبية بين المتسابقين ولجان التحكيم معالجة تبسيطية، فالمتسابقون يتقلصون في انموذج فرد مطلق او ثلاثة يتصدرون الجوائز الرسمية. اما ان تضاف عشر جوائز "تقديرية" اخرى الى نتائج هذه المسابقة، فضلا عن سبع قصص "أوصت" اللجنة التحكيمية بنشرها ضمن كتاب صدر مؤخراً عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، فهذا الامر في تقديري من الصلاحيات غير المحببة لسلطة التحكيم التي قد تفسّر بالخلط او المعايير المزدوجة والمركبة معاً، وصولا الى مرحلة الترضية او "جبر الخواطر" لكافة المتسابقين، وهو امر لا ينبغي للجنة المذكورة ان تنزلق فيه، وهي التي تطامنت او ارتضت بأعباء المسؤوليات كلها.
اقول هذه الحقيقة، قدر ايماني بأن فن القصة القصيرة في العراق بدأ يأفل وينحسر لحساب فن الرواية المعاصرة وقصيدة النثر الحديثة، وادب المقالة الراهنة في عالمنا الجديد، على العكس تماماً من زمننا السبعيني السابق حينما كان للقصة القصيرة حضورها وتأثيرها حتى على رواد المقاهي والنخب المثقفة في الدوائر الحكومية والجامعات وعلب الليل.. اذكر هذه الحقيقة دون مغالاة، وفي ذهني تأثير القصة القصيرة واهمية قاصها على الصعد الثقافية والاجتماعية والاعلامية، حينما كنت منغمراً فيها، وبها وجدت بها عرفت، وبها حييت وسعدت وانفلت ورشدته واكرمت.
مع سلطة التحكيم أولاً
وهذا ما يدعوني الآن ان اضع "مسابقة القاصة سافرة جميل حافظ للقصة القصيرة" في ميزان نقدي الشخصي، وذائقتي الخاصة بي وحدي، ومعرفتي بأحوال المسابقات الادبية والفنية والاعلامية التي طالما شاركت فيها كمتسابق او أحد اعضاء اللجان التحكيمية طيلة العقود الاربعة المنصرمة. ولهذا سأنطلق من كتاب المسابقة المنشور، من عتباته النقدية والتقديمية، متجاوزاً المخطوطات القصصية التي وردت الى لجنة التحكيم اولا وصولا الى الفهرست الاخير الفقير غير النضير، الذي يقف اعضاء هذه اللجنة وراءه، اذ لا مجال ان يحسب لهذا الكتاب غير المكتمل في خانة المسابقات او "الانطولوجيا" القصصية بعد ان غاب عن فهرسته اسماء المشاركين وسير شخصياتهم الابداعية والاجتماعية، وهي اسماء لها رنة الذهب الصاغ كما جاء في خلفية الكتاب. وهي ايضا صيغة مكررة من قبل القائمين على سلسلة منشورات اتحاد الادباء وتثبيتها لا يمت بأي صلة للمسابقة بقدر انتمائها الى القائمين على نشر هذه السلسلة، ولا تحسب البتة من منجزات لجنة التحكيم او من تجلياتها الممهورة بجهودها الشخصية.
لقد اعلنت لجنة التحكيم عن نفسها لأول مرة بعد طول غياب في اصدارها لهذا الكتاب، حتى وان لم يكن هذا الاعلان ملموساً او ملزماً ضمن قائمة الفهرست او بملحق او بيان واجب يتضمن عدد المشاركين في هذه المسابقة مع اسمائهم وسيرهم – كما قلنا – او التعريف الكامل بمن يقف وراء الجائزة، ثم قيّم هذه الجائزة المادية "دينار كانت ام دولار" ثم تواقيع اعضاء اللجنة بأسمائهم الكاملة واختصاصاتهم في نهاية البيان.
لا اعرف شخصياً ان كان هذا الاعلان قد تحقق من خلال حفل توزيع الجوائز، ام ان الامر بقي سراً حصيناً ازاء المعنيين في الشأن القصصي العراقي، فمثل هذه التفاصيل ليس لنا دراية كاملة فيها.
واقول، لقد غاب الافصاح المعلن عن اسماء لجنة التحكيم في اصدار كتاب هذه المسابقة، ولكن القارئ الحصيف، القارئ الناقد المتابع الذي لا تفوته شاردة او واردة في مشهدنا الثقافي الراهن، وهو على العموم مشهد فكاهي محصور بين دروب وكواليس شارع المتنبي الضيق والاوراق والصيحات المتناثرة في ساحة الاندلس المجاورة تقريباً الى مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. يستطيع ان يكشف عن الاقنعة المتنكرة لأعضاء هذه اللجنة واسماء ذواتها من خلال اوراق المقدمة والمدونات النقدية المصاحبة للقصص الفائزة الثلاث، او للقصص التي حازت التقدير والثناء او القصص التي عملت على نشرها من باب "الوصاية والتفضل" لا من دواعي الاحتضان والثناء لأرقى القصص او لأهم كتاب القصة العراقيين المنهمكين الحاليين في شواهد المشغل السردي العراقي، فليس في الامكان ان تدرج هذه المسابقة بهذا الشكل الاستبعادي لمن يستحقونها حقاً، ولا يمكن ان تكون بهذه التوفيقية الملغزة.
لقد اتاح لنا كتاب "مسابقة القاصة سافرة" الاخيرة فرصة التعرف على عشرين قاصاً او قصة، مع فرصة التعرف على حكام المسابقة حتى وان لم ينزعوا اقنعتهم التنكرية تماماً، وهم بلا شك، أربعة لا خامس بينهم، واعني بهم: "ياسين النصير، ناجح المعموري، عالية طالب، حميد الربيعي" بعد ان حاولوا ان يخفوا على الجميع اسماءهم، كما جرت العادة السائدة تحت طائل سرية الاقتراع المطروح والعدد الكثير من القصص الذي يتوقع ان يفدهم. ولكن اوراقهم النقدية وصبواتهم النفسية التي نعرفها عنهم جردتهم من تلكم الاقنعة وكشفت عن الاسئلة العملية الكبرى التي يحتدم بها صراع مسابقاتنا الادبية وحتى الفنية والاعلامية التي لا يمكن حلها حلا كاملا في مجال المزاج او الوعي وحده، او حلا متناثراً هنا وهناك، بل لا بد من حل عملي شامل لها في مجال الحياة الواقعية نفسها، كضرورة حاسمة للتغيير والتجديد الثقافي المعرفي الاجتماعي عامة.
فكلمة التقديم التي جاءت بها ورقة الزميلة الاديبة عالية طالب الى جانب ما تحمله من حيثيات وشواغل، تعني كذلك الحجة والبرهان، وكانت تعبيراً عن هذه الحلول المتناثرة اكثر منه تعبيراً عن اشكالية موضوعية بين المتسابقين وسلطة الحكام.. هل من شرط للمشاركة في هذه المسابقة ان يكون الحد الادنى للنص القصصي 2500 كلمة؟ من قال هذا؟ ومن اجترح هذا الشرط؟ ومن امتثل اليه على صعيد المشغل القصصي في العالم؟ أدغار الن بو ام انطوان تشيخوف ام الزمرة الكبيرة لكتاب القصة المعروفين في العالم كسومرست موم او بورخيس او يوسف ادريس او محمد خضير؟! ثم أليس من الاولى ان يطلق على هذه المسابقة صفة القصة الطويلة تحديدا لا القصة القصيرة حتى تكون أكثر رجحة وبرهاناً؟
ان خلاصة هذا التقديم تعبر عن كسل معلن للجنة التحكيم عما وردها من عدد وفير من القصص، فضلا عن مصادرة الحريات الاساسية في كتابة القصة من حيث الحجم مع انتهاك فاضح لخيارات أي قاص في بناء قصته او في التخطيط المسبق لها في ادق تفاصيلها قبل الشروع في كتابتها.
من اجل الانصاف فقط
تراوحت قصص المسابقة المنشورة في مجملها ما بين موضوعات: الحرب، الحصار، المنافي، الارهاب، الموت، الولادة، الشيخوخة، العنف، الخيبة، السعادة، وغيرها من الموضوعات المتصلة بعراقنا المعاصر، او بإيقاع السلوك اليومي، وتباينت في قدرتها على تشخيص الانفعال الانساني ورصد مفارقات الحياة بتفاصيلها المدهشة والصادمة في آن، كما تفاوتت في امتلاكها الطاقة التعبيرية عن مدرك الحس المشترك.
لقد جاءت قصة "شامبالا" بقلم حسين محمد شريف تتويجا للتقرير النقدي المبهور "وليس المبهر" للأستاذ ياسين النصير بالقاص والقصة، وهي حقاً قصة متفردة بسردها وبتداخل ازمنتها وعدد الرواة فيها.. شخصيا لم اقرأ لحسين محمد شريف أي نتاج سابق، وكل تقنيات قصته تعبر عن قاص محنك من الصعب تهميشه او الافتئات على قصته المذكورة، حتى وان كانت هذه القصة أولى الاثافي في حطب المسابقة او الثالثة فيها، فهي قصة جديرة بالفوز حقا ضمن القائمة الطويلة التي تفردت بعشرين قصة وقاص.
وتجيء قصة "نيرافادا" بقلم اسعد الهلالي انتصارا لتقرير الاديب الاستاذ ناجح المعموري، واعترف بأنني قرأت للهلالي روايته الاولى وقد ابهرني فيها سرده المنظم الساحر وفجيعة اغترابه في المنافي، الا ان قصة "نيرافادا" لم تكن مقنعة بأصواتها البوليفينية المتعددة وغرابة الاسماء الواردة فيها وكأنها تكرس لفلسفة "النيرفانا" البوذية القديمة او سحر الشرق الذي ابهر المستشرقين والنيتشويين في آن، كما ان هذه القصة تذكرنا بالأصوات البوليفينية الفكتورية المتكلفة للروائية فرجينيا وولف خصوصا في روايتها الشهيرة "الى الفنار" اكثر مما تذكرنا ببوليفينية ديستوفيسكي الكلاسيكية ذات الطابع السلس الجذاب.
اما قصة نبأ حسن مسلم "الحصان" فهي انموذج غير دقيق وغير حصيف للأدب النسوي الذي يفرض احياناً على المشهد الثقافي العراقي من دون ابداع ملموس او حق وجيه، تحت مسميات "الجندر" النسوي او حق "الكوتة" السقيم، كأننا في فرضية انتخابية دستورية لا في مسابقة ابداعية تفرز الصالح من الطالح في نتائج المبدعين العراقيين. وهذه القصة – للأسف – من اختيارات الزميلة الكاتبة عالية طالب ان لم تكن من عثراتها الجمالية في فرادة الاختيار وحسن الانتقاء، كما جاء في ورقتها النقدية لهذه "القصة الساذجة" في محتواها وبنائها وغلبة الوصف التقريري السائد فيها. ولعل من اخطر مضامين هذه القصة انها تؤلب المرأة العراقية على التطرف في السلوك والطباع والعزلة من خلال ثلاثة اسوار منيعة ازاء ابناء جلدتها من العراقيين، مفضلة عليهم امانة شيخ مصري كسيح ونقاء سريرة هندي صنديد ابكم، الامر الذي لا يتيح مجالاً لقضية الصراع بين الجنسين في مجالات المعرفة , الايديولوجيا ، الاخلاق، العقل!
خلاصة عامة
ولو شئت اخيراً ان اضع اختياري وذوقي وضميري في انتقاء أجمل وافضل واروع القصص المشاركة، لاخترت من دون كلفة: "زيارة للقصر الجمهوري" للقاص زهير كاظم و"عين زجاجية وقحة" لمحمد الكاظم و"غرق" لمحمد كيوش في الصدارة الاولى. ثم اضع قصة "مسرحية" لحدير عبد المحسن و"صورة مؤثرة لجويس" لأسعد اللامي و"صديقي الماسوني" لعبد علي اليوسفي في صدارة اخرى تضاهي الاولى وتنافسها، من دون ان اغمط حق القصص والقاصين الآخرين في اولمبياد قصصي مثير قلما يجود به مشهدنا الثقافي الراهن.
عسى ان تأتينا المسابقات اللاحقة بالمزيد من القصص المبدعة والكثير من الاسماء الخلاقة في عقدنا الثاني من الألفية الكونية الثالثة.