تُتيح لنا مجموعة "بائع القلق" للقاص أنمار رحمة الله فرصة تقصّي التحوّلات في النص. ولعل الفرصة التي أُتيحت لنا في قراءة ثلاث مجاميع قصصية، وضعتنا مباشرة ضمن حقل التحوّل في البنية التي عالجناها في موضع آخر سابق. أذ رأينا أن القاص مهتم بالتحوّل في كتابة النص وفق رؤى جديدة، وواقع مختلف. فالتحوّل في أبسط ما يعنيه هو التأمل الدائم في تجربة الكتابة، حيث تكون بموازاة ما استجد من تحوّلات القراءة، ثم تأثيرات هذه القراءات على نمط الكتابة. فالاستقرار على نمط ثابت، أمر فيه كثير من موت النص والعكس يصح. فممارسة المعرفة وتوّسع الرؤى كفيلان بصناعة نص ليس مغايراً لما سبقه، بل أن يدخل إلى الظواهر بكيفية مختلفة. هذه الكيفية يتوجب أن تكون مدروسة بدقة ونقد ذاتي. فالمراجعة الذاتية، واحدة من أصعب المهام لممارسة صناعة النص، خاصة السردي منه. فالشعر لم يستقر على حال معين، ولم يبق صياغاته ثابتة، وإنما مارس شتى أنواع التغيير والتحوّلات، سواء في رؤية الشكل أو المعنى إن الجانب المعرفي يلعب دوراً بارزاً في تجربة الكاتب، إضافة إلى المعينات المعرفية الأخرى. كما هي اهتمامات القاص بالسينما والرسم والموسيقى. هذه المعارف وسّعت دائرة رؤيته للظواهر. بمعنى امتلك دربة الكاتب السارد المثقف الساعي إلى تمييز الأشياء والمتغيرات. وهذه الاهتمامات نجدها متركزة في مجمل صناعة النص السردي لديه، ابتداء من العتبة الأولى وعتبات النصوص. فهو معني برسم المؤشرات الدالة لعتبات نصوصه، فيضفي عليها وظائف محفزة ومثيرة للتخيّل. ناهيك عن علاقتها بمتون النصوص، كما حصل في مجموعته "ويسألونك عن القرية.." وما ظهر خلاله من توظيفات لنص القرآن، كذلك ما كان له من محمولات تخص ما هو مضمر قبل حرف الإضافة "و" التي تؤشر إلى ما سبق فعل الأمر "واسألهم". والنقاط الثلاثة بعد نهاية العتبة. وهي دالة على المسكوت عنه. أي أن العتبة الأولى ذات تواصل بنيوي، أو هو جملة سردية مستوفية معانيها، كما تؤشر الآية الكريمة، يكون السؤال عن القرية يعني السؤال عن أهل القرية.
أما ما يخص "بائع القلق" فهي عتبة فيها مظان كثيرة، ودفع للبحث عن مصادر القلق وطبيعته، سواء عند الشخص "القَلِقْ" أو الذي "يُسبب القلق". فالبيع مداولة عطاء وأخذ، وفيها نمط السوق التجاري. لذا نجد أنها حرفة أسقطها القاص على نصوصه لتجسيد الاستلاب الاجتماعي أو غيره. غير أنه كقاص حريص على فنية نصوصه، لم يبح بأسباب العلل، لكي لا يحوّل نصه إلى مجموعة شعارات مباشرة. فالأمر متروك للقارئ حيث يجد ضرورة للمشاركة والفهم ثم تأويل ما يمكن تأويله وفق رؤية المتلقي، وعدم أخذ الأمور مأخذ المباشرة، إنما تقصّي بلاغة القول في السرد. ومن عتبات النصوص، وهي كثيرة نختار منها الأكثر إثارة كعلامة وهي "تواطؤ، الشوكيون، ديستوبيا، عشيرة العاقول، مدينة الأقفال". هذه النماذج من العتبات تؤشر فانتازيا النصوص وموقفها النقدي. وهي نحت مبكر في ما تأتي به النصوص باعتبارها استهلالات بليغة.
أما السمات الفنية للنصوص، فإنها اتسمت بالقصر، مقتربة من نصوص القصة القصيرة جداً، التي كتبها" خالد حبيب الراوي، أحمد خلف، حنون مجيد، حمدي مخلف الحديثي، سعدون البيضاني، حسب الله يحيى، نهار حسب الله" وغيرهم. وهذا الاقتراب حقق صلته بمنهج صاغته أقلام الكتّاب العراقيين، وميّزتهم عن فصص كل من "محمد عيتاني، زكريا ثامر، محمود شُقير" مثلاً. فالقصص تميّزت بالكثافة والجملة القصيرة الموحية، الجملة التي توصل المعنى بأقصر الطُرق. كما وأن نصوص المجموعة اتبعت خلال التكثيف، التوفر على التراكم الكمي، لغرض تحقيق تراكم نوعي، وهي خاصية جدلية النص مهما اختلف جنسه. ولعله حقق قدراً كبيراً من هذا الضرب من الكتابة القصصية. ولم تبتعد منظومته القصصية العقلية عن حيثيات المخيّال في صناعة النص، بل بدا أكثر استعمالاً لها، كذلك أجواء الفانتازيا التي تصل إلى فضاءات الغرائبية التي اقتربت كثيراً من نقد الواقع المترهل بالسلبيات والخارج عن جادّة الصواب. وقد أولى القاص اهتماماً بالحدس القصصي، فنجده بهذا يبتعد عن الوقوع في الوهم، متشبثاً بالإيهام الذي صاغه الشعر كلازمة له، كما ذكر الناقد "محمد النويهي" في كتابه"الإيهام في الشعر". فالقاص في هذا الضرب من الكثافة حقق معادلاً موضوعياً في ما يخص المعنى، معتمداً على الضربة القصصية، التي هي مفتاح بلاغة النص القصصي القصير.
ما نريد أن نؤكده هنا أن القاص أنمار رحمة الله خلال ثلاث مجاميع قصصية، كان دؤوباً على تأسيس رؤى خاصة به ضمن كتابة النص القصصي، سواء في ما يخص القصة بحجمها المعتاد أو في جنس القصة القصيرة جداً. ذلك واضح من مفردات هذا التأسيس على كل أصعدة النص، ابتداء من العنوان الرئيسي للكتاب القصصي، وصولاً إلى العناوين الفرعية للقصص، ثم إلى البناء الفني العام واحتواء المعنى. هذه المتلازمة في الكتابة هيأت القاص إلى أن يكون ذا رؤية ذاتية في كتابة نصه، مستفيداً من قراءاته، وممارساته للأجناس الأُخرى..
تحوّلات السرد بائع القلق.. سؤال المفارقـــة
- التفاصيل
- جاسم عاصي
- ادب وفن
- 1625