اليوم سنكون في رحاب شاعر عراقي رحل عنا قبل سنوات في منفاه بمدينة حلب السورية والتي عاش فيها لعقود من الزمن بعد أن اضطرته الظروف القاهرة جراء مطاردات وملاحقات الأجهزة الأمنية الى الرحيل مجبراً، أنه الشاعر الراحل مهدي محمد علي الذي بدأ نشاطه الثقافي في بداية الستينيات عندما نشر اولى قصائده في الصحف والمجلات، وبعد تخرجه من جامعة بغداد عمل مدرساً للغة العربية في مدارس البصرة، ولعل دموية نظام الحكم في اواخر السبعينيات على قوى اليسار العراقي هي التي أجبرت شاعرنا مع صديقه ورفيق دربه الشاعر عبد الكريم كاصد للتفكير بالهرب بطريقة لا تخطر على بال أجهزة الأمن بعد أن شعرا بالخطر الكبير على حياتيهما! هروب لا يليق إلا بالشعراء الفرسان، فقد كان الهروب على ظهور سفن الصحراء "الجمال"، من صحراء السماوة مرتدين الملابس البدوية وثمة دليل المهرب يرشدهم الى طرق الصحراء المعقدة بعد رحلة مضنية ومهلكة لا تخلو من المخاطر الكثيرة، ومن سماء الى أخرى ومن أرض الى صحراء والعيش على الطريقة البدوية حتى وصولهم الى الكويت ومنها تمكنوا من الخروج بجوازات يمنية الى عدن التي عاشوا وعملوا فيها لفترة ومنها الى مناف أخرى حتى استقر بمهدي محمد علي المطاف في مدينة حلب السورية التي عاش ومات فيها نهاية عام 2011!
في فترة الثمانينات أيام الحرب مع ايران كانت أخبار الأدباء والفنانين الذين هاجروا قد اختفت تماما، فالسفر ممنوع والحرب تأكل بنا بانتظام، كنا نسمع القليل عن البعض منهم وخاصة تلك الرحلة وطريقة الهروب التي قاما بها، وحين انتهت الحرب وأنا أضع خطواتي الأولى في العاصمة عمّان وعن طريق الصدفة تعرفتُ ذات يوم على شاعر عراقي كان مقيما في كندا واسمه عباس الدليمي جاء لزيارة عمّان، كان ذلك منتصف التسعينيات، طيبته العراقية جعلتني أثق بكل خطواته التي جابت المنافي الطويلة حتى استقراره في مدينة حلب السورية وحدثني عن صديقه وجاره الشاعر مهدي محمد علي الذي لم ألتقيه من قبل لكني سمعتُ عنه وقرأت الكثير من قصائده ومقالاته التي ينشرها في بعض الصحف والمجلات وبخاصة مجلة الثقافة الجديدة، في تلك الأوقات كان مهدي محمد علي عضوا في هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة ويحرر صفحاتها التي تعنى بالأدب والفن.
خلف رحيل الشاعر صدمة كبيرة عند كل من عرفه أو قرأ كتاباته التي يبوح فيها بمآسي البلاد ومآسيه.
وفي مجموعته الشعرية وثق الشاعر رحلته المضنية في قصيدة بعنوان:"رحيل".. عبر لغة شعرية رصينة تفوح منها رائحة الرمال وشقشقة البعير وتجعلنا نتابع رحلته بمفارقاتها وصعابها ومخاطرها ولكن بالشعر.. الشعر دائما هو الصفاء والروح النقية الخالية من الشوائب على مر التاريخ.
مهدي محمد علي هو شاعر واضح الرؤية، وواضح بجملته الشعرية، لم يكن غامضاً في كل ما يبوح به، كلمات القصيدة تشعل الطريق المظلم في صحراء ليل السماوة وتحيله الى أضواء ساطعة تشبه الأقمار عبر الحدود. الشاعر يصف ملابسه البدوية التي ارتداها والبعير الذي نقله عبر الصحراء ذات الكثبان الرملية والريح حين تأتي وهي مسرعة، وصوّر حياة البدوي وكيف يبحث عن مصادر رزقه في الصحراء، يقول:
في أول هذا العام
غادرتُ الوطن بزيِّ بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة من رمل ورياح ونياق وأدلاّء
ورجال تبحث عن رزق ما بعد الصحراء
سبعة أيام بلياليها لم نعرف غير ذلول دليل
وسماء ورمال وصحارى تصفر فيها الريح
وطن يمتد الى أقصى الأرض وأقصى الروح..

عرض مقالات: