تبقى مشكلة الأسرى واللاجئين واحدة من أعقد المشكلات التي تفرزها الحروب والصراعات السياسية الداخلية، فهي مشكلة انسانية تتعلق بمصير حياة قطاعات بشرية واسعة تدفعها أهوال الحرب واضطهاد الأنظمة الى البحث عن ملاذات آمنة تحميها من براثن الموت أو بطش السلطات، وقد ألهمت هذه المأساة كبار كاتبي القصة والرواية فظهرت روايات انصب اهتمامها على مصير الانسان تقف في مقدمتها رواية "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جيورجيو التي تناولت أهوال الحرب العالمية الثانية وما جرى في المعتقلات من ممارسات غير انسانية تشبه الى حد كبير ما يحدث في عالمنا الآن. وقد ظل أدبنا العراقي والعربي يفتقر الى هذا النوع من التدوين الذي يكشف قبح الحرب ووضاعة تجارها ويعمل على تعرية الأنظمة التي تتعامل مع الأسير والمعتقل بوحشية غير مبررة، لذا يعد كتاب الشاعر عدنان فارس "تحت سماء الأرطاوية" إضافة مميزة لبدايات فقيرة خاضها البعض ممن عاشوا تجربتي الأسر والسجن، فهو يسجل يوميات شاب يلجأ الى صحراء السعودية هربا من بطش نظام الخليفة ــ كما يسميه ــ وذلك عقب اندحار الجيش العراقي في الكويت وقيام انتفاضة اذار 1991التي تسببت في سقوط عدد من المدن العراقية في ايدي المنتفضين ومن ثم قيام الجيش بإعادة المدن الثائرة الى حظيرة الحكومة  حيث يجد نفسه ضمن آلاف الهاربين الى ذلك المصير المجهول.

فوسط رمال الصحراء الحارقة واسلاك الشبك الذي ضم اكثر من خمسة عشر ألف لاجئ يسجل الكاتب تفاصيل الأيام التي قضاها في محيط ذلك المعتقل الصحراوي بانتظار المستقبل المجهول ومهدد في أية لحظة بالتصفية من قبل حراس الشبك ، وبواقعية شديدة يستعرض معاناة تلك الأرواح الحالمة بالحرية التي يدفع الضغط النفسي بعضها الى العنف والقتال فيما بينها في معارك شرسة جدا أسماها بحرب التونة التي راح ضحيتها عدد من القتلى ، كما يدفع بعضها الى الانتحار نتيجة التوتر والقلق من ما سيفضي اليه الغد ومشيرا الى ان حادث انتحار صديقه "فاروق ابو سمرة" في الشبك وقبلها بسنوات انتحار فاطمة صديقته أيام الدراسة الجامعية بسبب شعورها بالعار نتيجة اعتقالها واغتصابها في سجون الخليفة هما جريمة ضد الانسانية سببها الاضطهاد الذي يدفع الانسان إلى انهاء رغبته  بالحياة.

لقد وظف الكاتب الموروث التاريخي في دعم وقائع الاحداث حيث أورد في نهاية كل فصل شهادة من التراث تناولت القسوة المفرطة فاستعان بكتاب عبود الشالجي "موسوعة العذاب" ليقول ان عذاباته في الشبك لها جذورها التاريخية، فهي امتداد لما كان يفعله الحكام الأقدمون بخصومهم ومعارضيهم وحتى في الحاضر فـ "الدول العربية الحديثة تتشابه في فنون التعذيب بدرجات متفاوتة من دولة الى أخرى"، كما يورد الكاتب صوراً من وقائع التعذيب التي تعرض لها هو وعدد من رفاقه  بسبب مطالبات مشروعة حيث كانوا يشبكون على الصلبان حفاة وشبه عراة ويتعرضون للجلد والشتم ويتركون تحت الشمس حد الاغماء يضاف الى اعدام بعضهم على أيدي حراس الشبك. والملفت للنظر في هذه اليوميات ان الكاتب لم يغفل عن ذكر القوميات والأديان الاخرى التي شاركته هذا الواقع والمصير فيشير الى وجود الكلداني والمسيحي وتعرضهم الى الاضطهاد الديني، كما ينقل وبحيادية واضحة التقسيمات التي صار عليها المعسكر فهناك خيمة المتدينين وخيمة الشيوعيين ووصل التقسيم الى المناطقية ايضا، ويدين التفرقة والمحسوبية التي تعامل بها الملحق الايراني في الكويت عندما زار الشبك وقام بانتقاء 250شخصا من الشيعة وطار بهم الى ايران، ولمسنا في هذه اليوميات قدرة الكاتب على استثمار لغته الشعرية التي ابتعدت عن السطحية واختصر المسافة بينه وبين المتلقي عن طريق استخدامه ضمير المتكلم فكانت موفقة في التعبير عن حرارة التجربة وصدقها وكذلك تجسيده عمق المعاناة التي عاشتها أرواح الشبك، وكان سلوك الكاتب فترة وجوده في هذا العالم المضطرب على درجة من الايثار والنبل، فهو لم يتحدث عن معاناته فحسب انما كانت كاميرته تدور في الاقفاص كاشفة عن معاناة كل "ضيوف" الشبك ، كما كان فاعلا ومتفانيا في مساعدة الاخرين من خلال الترجمة والاتصال بالقيادات المسؤولة عن المعسكر وكذلك في تنظيم الاضرابات والكتابة عن معاناتهم الى المنظمات الدولية وهو ليس بالسلوك الغريب على تربيته وثقافته اليسارية.

تمثل هذه اليوميات تجربة حقيقية عاشها الكاتب "الراوي" حيث وظف جانبا من سيرته الذاتية دون تزويق ، فلم ينسب الى نفسه اية بطولة خارقة انما قدمّ نفسه انساناً طبيعيا يتأثر بالأحداث فيخاف ويحزن ويفرح ويضعف أمام قسوة الظروف فكم من مرة فكر بالعودة الى بلده مع علمه بالمصير الذي ينتظره ومؤنباً نفسه "اللعنة اي جحيم وضعت قدمي فيه"، ولأن هذه اليوميات ظلت ملتزمة بحدود السيرة وقيامها على شخصية احادية وخلوها من الشخوص الفاعلين باستثناء الراوي فإنني لا أميل الى تصنيفها كعمل روائي مع يقيني ان هذا لا يقلل من أهمية وحبكة العالم السردي الذي قدمه الكاتب في هذه اليوميات، كما لا يقلل من مصداقيتها كشهادة تكشف عن عمق المعاناة التي كانت ترزح تحت قسوتها تلك الأرواح البريئة التي ذاقت الويل من بطش السلطة وحروبها وحصارها ويوم حاولت الهرب من ذلك الواقع المر وجدت نفسها وسط عالم اكثر قسوة ومرارة.