تنبثق في الأدب شخصيّات نسائية تحاول تغيير الصورة النمطية عن المرأة. وغالبا ما تعاني هذه الشخصيات من التحجيم سواء داخل العمل الروائي أو في المجتمعات التي ظهرت فيها هذه الشخصيات الخيالية. فقد عانت بطلة سيبيلّا ألي رامو من استهجان المجتمع الإيطالي في بداية القرن العشرين لكنها بقيت الشاهد على فن إلي رامو وواحدة من شخصياتها الأكثر شهرة. أما جيوكوندا بيللي وبعد أن اعتزلت الشعر مؤقتا لتكتب لنا "بلد النساء"، فقد ابتدعت عالما آخر مختلفا تقود فيه النساء وتتغير معايير العمل فيه لتتفق مع حياة المرأة الأم. فتندرج رواية بيللي تحت ما يسمى بأدب اليوتوبيا. ثورة بطلة إليرامو كانت محدودة ضمن أفق حياتها الشخصية أما بيبيانا سانسون بطلة بيللي فقد كانت ثورتها شاملة وجذرية. يستعرض هذا المقال شخصيتين حاولتا تشييد أسس لواقع لا تكون فيه النساء في الجانب الأضعف. 

يفوز حزب اليسار الإيروتيكي بالانتخابات الرئاسية لبلد تدعي فاغواس لا تحدده جغرافية الواقع بل يتفجر من عوالم جيكوندا بيللي الروائية. تؤسس بيبيانا سانسون حزبا سياسيا بإيدلوجيا نسوية يغير المعايير الذكورية المسيطرة والتي تعتبر المقاييس الأنثوية هامشية وتشل الحياة السياسية للبلد. كتبت بيللي هذه اليوتوبيا بطريقة منتقمة ساخرة تلتقط التفاصيل التي دفنتها ضجة الحياة الذكورية. لم تنحسر المعارضة الذكورية للحكومة النسوية ولم تلو سانسون عن قراراتها وتطلعها للتغيير. ومن أبرز ما يميز هذه الرواية هو ارتفاع الكاتبة بقيم الأمومة وتبجيلها إلى جانب الدعوة الى الاحتفاء بالقدرات الفكرية للمرأة فالعمل على أحدهما لا ينفي الآخر بأيّ طريقة فتقول: "لا رغبة بهجر قيم الأمومة بل بتوزيعها".

بعد أن حازت سانسون على مقبولية جماهرية من عملها كصحفية تأتت من إبراز المشاكل التي عرقلت النمو الإقتصادي وجعلت من الهجرة على قائمة أولويات الشباب، رشحت نفسها للانتخابات الرئاسية بعد تأسيس الحزب الذي أخذ اسمه من مجموعة شعرية لانا ماريا روداس بعنوان"قصائد اليسار الإيروتيكي". نشدت سانسون وزميلاتها في الحزب العدالة وتغيير وجه العالم بطريقة تتناسب مع حياة المرأة كأم. انّ كل مؤسسات العمل تأخذ من حياة الرجل أنموذجا تستند إليه في التنظيم. فبيئة العمل يجب أن تصمم لتناسب حياة المرأة كأم ولا تكون عاملا في عزوف النساء عن الإنجاب واستحقار المجتمع للحياة الأسرية والصفات الخاصة بالأمومة والأنوثة: "الأمومة في العالم بأسره معاقبة للمرأة ، تعاقب لأنها تحبل، ولأنها تلد ولأنها تربي الأبناء وترعاهم. ومع أننا دخلنا عالم العمل، إلا إن عالم العمل لم يتكيف معنا. أنه مصمم لرجال لهم زوجات. لو أننا نحن النساء من نظمنا العالم، لما كان العمل أداة فصل للأسرة". وبذلك فأن حزب اليسار الإيروتيكي يعتمد نظام السعادة الأول من نوعه في العالم والذي يعتمد بموجبه تطور البلد على معيار الأمان والراحة التي يشعر بها أبناؤه وليس إنتاجية الفرد المادية.

قبل الترشيح للانتخابات، أخذت سانسون بفضح ملفات فساد قاض يربي بطريق في غرفة باردة مجهزة في حين يعاني أبناء بلده من ضيق العيش. كما تطرقت أيضا الى جريمة الاتجار بالبشر والتحرش الجنسي واغتصاب المحارم المتورط بها أيضا أضافة إلى رشوة أجهزة الأمن وتعاونها. في الوقت الذي شكك فيه المواطنون بقدرة النساء على القيادة، كان لهياج بركان ميتري الذي قذف بنيرانه الذائبة دور في انهيار ليبيدو الرجال وهبوط مستوى التستوستيرون الذي عمل بدوره على انحسار الرأي الذكوري وهزيمتهم في عقر رجولتهم.

كانت بيبيانا سانسون تلقي خطابا أمام الجماهير المؤيّدة لها حين أستقرت رصاصة في دماغها وأخرى في صدرها. يستدعي هذا الأمر فضول بائع الثلج المبشور والذي يعمل حارسا لدى الرئيسة: جوزيه آرتيميتريكا الذي يعمل في الرواية على إبراز بعض التفاصيل من وجهة نظره كرجل له قدرة على الإطلاع على ما يدور في الحزب الرئاسي. كما إن الأمر يسبب القلق لإيفا سالفيتيرا المسؤولة عن أمن البلد. بعد الحدث الافتتاحي للرواية، نجد إنها تتفتح على الأسباب التي أدت إلى إصرار النساء على التغيير. جيوكوندا بيللي تستعرض أمامنا المشاكل الإجتماعية والاقتصادية ومحاولات إحباط المرأة وتأطيرها بمفاهيم محدودة وأثر ذلك على تنمية البلدان. فاغواس بلد ينبثق من خيال بيللي لكنه يعاني كما جميع بلدان العالم الثالث من معوقات تشلّ حركة التطور ومساعي الرفاهية. وهي هنا، تقدم نظرية وتحاول إثباتها مقدّمة لذلك أسبابا منطقية وحلولا واقعية. فتقول "للنساء القدرة على التفكير خارج ما هو سائد". تتماسك الرواية بقدرة مبهرة على الإثارة المتواصلة والأحداث المرتبطة بخيوط رفيعة من السخرية.

شخصيّة بيبيانا سانسون متمردة شجاعة وساخرة وجامحة. هي نموذج لإمرأة قويّة ومغامرة لها القدرة على نقل الخيال إلى الواقع فتقول: "كل امرأة تستحق ولو مرّة واحدة في الحياة، أن تصاب بالجنون... أن تستحوذ على فكرة وتخرج ممتطيّة تلك الفكرة ومتنكبة الرمح، وواثقة من إن بذل الجهد يستحق العناء، أيّا كانت النتائج". شخصيات الرواية مرسومة بعناية فائقة وبتنوع أضاف فرادة واختلافا بديعا. نلتقي شخصية خوانا دي آركو وهي من أكثر الشخصيّات المثيرة والتي تطورت من فتاة مستعبدة إلى امرأة تتخذ القرارات السياسية. تقدم بيللي باتريثيا على إنها من ضحايا الإتجار بالبشر والتي يديرها القاضي خيمينث. تلجأ باتريثيا لبيبيانا حين كانت صحفية ومذيعة وتطلب منها المساعدة. وبعد أن تفعل كل ما تستطيع لإنقاذ الفتاة، تقترح بيبيانا عليها السفر إلى أستراليا لتعود إلينا المتمردة خوانا دي آركو التي تقول:"من السهل جدا أن تموت إحدانا إذا كانت جميلة وفقيرة. زلة قدم، وجه تسيئين قراءته، قليل من الثقة بالشخص الخطأ وتنتهين أيتها الحزينة". ومن حزب اليسار الإيروتيكي نتعرف على إفيخينيا والتي تعرفت على بيبيانا من نادي الكتاب. كانت إيفخينا بورتا تحلم بالعمل خارج البيت، إلا إن زوجها الذكوري مارتين المتململ من قرار إيقافه عن العمل وخضوعه الى سلطة المرأة منعها من ذلك. فنراها تتحرر وتتفتح كلما أوكلت مهام العمل المنزلي لزوجها وأخذت تتقدم في جانب آخر من الواقع. بعد أن تفيق بيبيانا سانسون من الغيبوبة تقرر التخلي عن الرئاسة لزميلتها تلقي خطابا بالغ الرقة تعترف به: "لست نادمة على جنون إرسال الرجال إلى بيوتهم".

***

تكتب سيبيلّا  أليرامو رواية شخصيات بعنوان "إمرأة" نشرت عام 1906 تنطوي على وجع أنثوي ومصاعب تواجه المرأة في إيطاليا في بدايات القرن العشرين فبقيت على قائمة الكتب المثيرة للجدل والتي حفزت الوعي. نحن أمام فتاة في الثامنة من عمرها تتعلق بوالدها وطريقته في التعامل والتفكير فتتقرب إليه وتأخذ من طبائعه وعاداته في مقابل انسحاب والدتها من حياتها والشرخ الذي يتسع بينهما. بطلتنا لا أسم لها لكنها تحكي مراحل مختلفة من حياة امرأة: الطفولة، الحب، الزواج، الإنجاب ثم قرار التخلي عن إبنها. الحب هو الخيط الذي يربط حلقات حياتها جميعها فتتساءل: "لماذا لم أتمكن من إيجاد الحب، حب أقوى من الواجب أو الحاجة؟" فتقاسي فوضى عاطفية على صعد مختلفة. لم يأت اختيار العنوان من فراغ، وإنما من نيّة الكاتبة إبراز الظروف الحازمة والمفاجئة التي غيّرت بطلتها لتصبح إمرأة. في الصفحات الأولى من الرواية تبدأ التناقضات بالطفو في وعي البطلة التي تحاول فهم ما يدور حولها ومقارنته بما تعتقد أو كانت تفكر فيه. فنحن أمام فتاة قارئة تعمل على ثقافتها الخاصة في بيئة تطالب المرأة بالأعمال المنزلية والبقاء في البيت فترات طويلة، وهنا ينشأ الصراع الأول بينها وبين والدتها المكتئبة التي تمثل أنموذجا لهذه الطريقة في الحياة فتقول البطلة: "رفضت التعليم الذي أراده لي رفضا تاما... خافت أن أكبر بمشاعر معدومة، وأن أعيش فقط من خلال ثقافتي". يتنامى في داخلها عكس رؤية والدتها فتصف حياتها قائلة: "أن شعورا جديدا ينمو فيّ وسينقذني من حياة جدباء، خافت أن يقودني إليها تثقيفي". والدة البطلة والتي لا نعرف أسمها كذلك، تعيش منطوية في بيتها تعاني اكتئابا حادا وعدم القدرة على التعامل مع الواقع وخضوعها العبودي لآراء زوجها الذي لا يهتم إطلاقا لما تعانيه ويفضل الهرب من المنزل إلى عمله أو عشيقته. فكانت البطلة تحاول أن تفهم ذلك أن توازن بين حبها الشديد لوالدها وإعجابها به وشفقتها على والدتها واستحقارها لضعفها.

آمنت الامرأة بالحب وظلت تسعى الى الحصول عليه بعد تجربتها الأليمة مع والدها والتي قالت عنها إنها الأولى التي وضعتها على خطوات أن تكون امرأة. اختارت لتهرب من استبداد والدها والإشاعات التي بدأت تحلق حوله ومن انكسار والدتها وجنونها، فارتمت بين ذراعي رجل أسمر اختارت أن يكون زوجها ليسافر بها بعيدا إلى بلدة بعيدة. وما أن تمزقت الرغبة حتى بدأ الرجل بإحكام قبضته حول عنقها، تذمره، طلباته وذكوريته. أنجبت له ابنا كان بارقة السعادة الوحيدة التي أخذت تلتمع في أفقها. أدخلت أمها إلى مصح عقلي وانشغل والدها عن إخوتها وابتعد ناسيا همومه في العمل وأحضان العشيقات. فتصف زوجها: "ارتميت عند قدمي أناني، وغبي، ومادي النزّعة، والذي أراد أن يدوسني كما لو كنت نبتة في طريقه". يبدأ البرود بالتسلل الى الزواج فيترك أعمق الألم في البطلة فتبدأ الفروق الذوقية بالطفو على سطح العلاقة، فتقاسي بصمت جارح قائلة: "لم يكن يعرف شيئا عن الفن، ولم يملك تقديرا غريزيا له كذلك، ولهذا سعى دائما الى إفساد استمتاعي العفوي". وفي محاولة لرسم صورة لحياتها الذهنية تبدأ البطلة بكتابة كتاب فتشغف بالكتابة والبحث العميق وتحاول أن تعوض عن الركود الفكري الذي سببه لها الزواج، فتقول: "بت أستكشف أهمية التمتع بأفق أوسع. مشكلاتي الشخصية بدت أقّل غموضا، عندما نظرت إليها بضوء هذه المشكلات الأكبر".

في النهاية تقرر البطلة أن تبدأ حياة أخرى وأن كان ثمن ذلك ابنها. فتتجه كليا إلى الكتابة، تترك زوجا مذلا، وتعود ثانية إلى بيت والدها وهي على ثقة بأن القانون الإيطالي لن ينصفها ولن تربح حضانة ابنها مهما كلف الثمن. تقول في الصفحة الأخيرة: "أشعر بالاطمئنان، بتجانس، وإذا كنت سأموت الآن فلن أندم. أشعر بسلام داخلي". هذه البطلة الروائية هي أنموذج للمرأة التي حركت الركود الفكري وأخذت بتعريج خط الحياة المستقيم فاستطاعت أن تهدم قوانين أسرة لم توافق نزعتها كما فعلت بيبيانا سانسون حين قلبت قوانين مجتمع بأكمله.