في وضح هذا الـ "7 يناير"، صنعت حنجرتي الطرية، أول لعبة، صرخة "الواق واق".
لم أكن سوى مخلوق جلاتيني مغمض العينين، ينبض قلبه بالاحتجاج، وأول ما حلًّق منه، سرب "واق واق" على ضفاف شط العرب "القديم"!
سألتف الآن الى ذلك "الجلاتيني"، سأرثي كل ما كان ينتظره، وستدمع عيناي، كلما شعرت أنه لم يكن يعرف شيئاً، وأنه سيبقى هكذا بكامل وقواقيته، بينما سيتحول منه مخلوق آخر الى محنة أطوار الهلاك.
هكذا أحبك، هكذا نحتفي معاً الآن، في يوم مولدنا المجاور لزرقة ذلك الشط.
في يوم ولادة أفروديت بحديقة زيوس اجتمعت الآلهة، وكان من بينهم "إكسبديون" ابن آلهة الحِكمة. في بيتنا لم تكن سوى القابلة "أم عبودي"، وشقيقتي الكبرى، ومخاض عسير استمر ليوم وليلة، وأب صنع اسمي تيمننا بالزعيم عبدالكريم قاسم!
"من أي نجم سقط أحدنا على الآخر"؟ جملة تساؤل نيتشوية يا يوم مولدي. تتوغل في تشاؤم شوبنهاور، وطفولة كيركيجارد، الفتى المُنعزل تمامًا، الذي اخترع له والده المُتشدد أن يتخيل خروجه وهو داخل غُرفته! ثم تترنح الجملة، تقف حائرة قبالة السوفوكلية القائلة بأنّ أفضل شيء في الوجود هو أن لا نولد أبداً.
ماذا لو بقيت في جلاتينيتك الى الأبد صاحبي؟ ماذا لو اكتفيت بصرخة واق، ثم اختفيت؟ لماذا تخليت عن عرشك لي؟ لماذا؟
سنتذكر طفولتي المشاكسة المكتظة بالبكاء والاحتجاج والعزلة، ونتذكر ألعابها النهارية الصاخبة في أزقة الحي، وسنتذكر ميلي المبكر الى رفقة الكتاب والموسيقى والفيلم الأجنبي والانصات الى حوار "الكبار".
سنتذكر كل ألوان عبث رامبو، ذلك المخلوق المتخفي في قلبي، الحامل غيب خيباته، والمكتفي بمراقبة ذلك الفتى الجموح. كأننا أنا وأنت، كنّا نرقب أهوال الحروب، ونعد على نبضات القلب تاريخنا المكتظ بالألم.
لا شيء أقسى من معاول الحروب حين تتهاوى على الرأس صاحبي، لا شيء أمر من ضياعنا في صحراء، لا شيء أشد عدماً من خسارة وجود.
لكنك لم تخسر أكثر من تنازلك لي، بقيت كما أنت، هكذا ما زلتُ أراك، أنا الذي حملت وزرك، وتمرغت في شرائح الألم، وصنعت منها ابتسامة، لا يفقهها الا أنا!
سأبتسم الآن، أضحك على كل ما ضاع، ها أنا أراه يقف صاغراً لي في طوابير السرد العنقاء، لي وليس لك، يشرب خيباته ببطء، من دون أن يدري أنه من خارجها غدا سحراً، تماما مثلك، أيها الطفل الجلاتيني المغمور، الذي ولد على ضفاف الشط، وما زلت أرثي كل ما كان ينتظره، ولكنًّ بعينين لا تدمعان، رغم أنني ما زلت أشعر أن ذلك الطفل "الوقواقي"، لم يكن يعرف شيئاً، وأنه سيبقى هكذا بكامل وقواقيته، بينما تحولت "أنا" الى مخلوق آخر منه. سرقت حياته، ثم توغلت في أطوار الموت. سرقتني الحروب، واجتاحتني قذائفها، واكتويت بنيرانها، ومضيت الى هذه الحياة.
"خطية" أنا يا صاحبي الجلاتيني، صرخة ابن "الذباب والزمرد" في غليان تداعيه، و"مخلوق آخر"، من مرارة "الضياع في حفر الباطن"، ومعادلة عبثية بلا معنى، في معلقة "كم أكره القرن العشرين، ما زلت أقلبها الآن وأهمس لك في يوم مولدنا البهي:"في الحروب، كما في لعبة الشطرنج، يهلك الجنود لينتصر الملك"!
هكذا أحبك، هكذا نحتفي الآن في يوم مولدنا المجاور لزرقة الشط.
هذا يكفي لأمثالنا يا صاحبي. أظنه يكفي.