يعتبر أرتور جبان من أهم الروائيين الهولنديين منذ أكثر من عشرين سنة. له مجموعات قصصية وروايات رائعة منها؛ "الأسود بقلب أبيض"، "حلم الأسد"، " نقص رائع"، فاسلاف، في الخارج هناك حفلة"، ورجل حياتي.  

  لقد عودنا الكاتب على تقديم رواياته التاريخية بلغة شعرية وجماليات مدروسة، معتمدا على دراسة توثيقية محكمة وعميقة. لا يترك شيئا للصدفة. بدءا بالعتبة الأولى، العنوان، وتقديم الفهرست وتقسيم هذه الرواية إلى ثلاث أجزاء واثنين وثلاثين فصلا مرقما؛ فصل يرافقنا، بالتوالي، في الحاضر مع السارد "كوليا" واسمه نيكولاي كونرادِ والفصل الموالي يجعلنا نبحر في مذكرات الشخصية مُدِست تشايكوفسكي التي كتبها على شكل برقيات مزينة بفن الكاليغرافيا الجميل. بالإضافة إلى كلمة أخيرة يضيف فيها معلومات عن شخصيات الرواية الذين عاشوا حقيقة في روسيا في هذه الحقبة الزمنية؛ القرن التاسع عشر.

   تعتمد هذه الرواية التاريخية على مستويين وفي كلا هما يبقى "كوليا" هو الشخصية الرئيسة. من خلال مدونات مُدست، نتعرف على"كوليا". طفل ذو الثمان سنوات، من عائلة ميسورة أصم، منعزل، يجهل القراءة والكتابة. لأن والديه لم يعرفا كيف يتصرفان معه، لذلك عينوا مُدست، الأخ الأصغر للمؤلف الموسيقي الشهير، بيوتر إليتش تشايكوفسكي، معلما له.

   هكذا احتضن الاخوان تشايكوفسكي كوليا. فكان أن اصطحبه مُدست إلى مدينة ليون، بفرنسا، ليعرضه على الدكتور هوكنتبلر وزوجته اللذين يعتمدان طرق تدريس صارمة، لكنها مفيدة وهي تعليم الأصم الكلام والقراءة والكتابة دون استعمال لغة الإشارات في معهد هو لحد الآن فرع للمركز الفرنسي كاليني. أخذ مُدست تدريس كوليا على عاتقه حتى خلال سفراتهم إلى الدول الأوروبية. واعتمد مدونة لكي يتابع تطورات كوليا الذي نجح فعلا في تعلم القراءة والكتابة والحديث عن طريق قراءة الشفاه. وكانت علاقتهم وطيدة جدا، عائلية وحميمية. عوضاه عن حنان واهتمام والديه له وأعادا له حريته. فأرتور جبان يهتم كثيرا بشخصيات تفتقر لشيء ما، يجعلها ضعيفة وخارج السرب. لكنه يجعل هذه الشخصية تستمد قوة من النقصان الذي تعاني منه وتحوله إلى نجاح، يساعدها على التغلب على كل الصعاب التي تواجهها في حياتها.

   نعود من هذه القصة الحقيقية إلى قصة المستوى الأول التي تبدأ بوفاة الملحن تشايكوفسكي المفاجئ، عن عمر يناهز الثالثة والخمسين، والتي تقرأ بسلاسة وتسترسل كقصة بوليسية. يحقق فيها كوليا الشاب، ذو الخمسة وعشرين ربيعا، الذي عاش سبعة عشر عاما مع الاخوان تشايكوفسكي ولم يصدق ما حدث لبيتيا  "وهو اسم تحبب لتشايكوفسكي" كما أنه لم يقتنع بسبب الوفاة، الكوليرا، كما كان يُتداول آنذاك.

 في الأيام الثلاثة قبل دفن بيتيا تشايكوفسكي بدأ مشوار كوليا للبحث عن سبب وفاته. فكانت صدمة كبيرة عندما اكتشف أن تشايكوفسكي لم يفارق الحياة بسبب الكوليرا وإنما قرر الانتحار بعد ان أرسل رسالة إلى كوليا يوصيه فيها بأن لا يفارق أخيه مُدست مهما كانت قساوة الظروف. يبدو أن تشايكوفسكي انتحر بتناوله سما.

   اقترب كوليا من مجموعة دفاتر متراصة على الطاولة. ولاحظ أن هذه المدونات لمُدست. وقد غطت كل السنين التي جمعته مع الاخوان تشايكوفسكي، وشملت حتى الأشهر الأخيرة قبل قطع كوليا علاقته بهما. سحب سوبرانوف دفترا من تحت الدفاتر المتراصة وناوله إياه. وقال له: "نعرف جميعا النهاية، لكننا ننسى كيف كانت البداية". لقد كانت بداية أول دفتر عام 1875، وهو العام الذي يشهد وصول مُدست إلى مدينة طراكينو ليتعرف على الطفل كوليا. يكتب مُدست: "عند رؤيتي هذا الطفل، لاحظت أن المهمة لن تكون سهلة." فيسترسل سوبرانوف:"أنت وأنا نعرف الحقيقة كاملة، فلماذا تريد جلب المتاعب للآخر"، ويقصد هنا مُدست، المعلم، الذي علّم كوليا ليس فقط الكلام بطلاقة والتحدث عن طريق قراءة الشفاه وأيضا جعله يختبر الموسيقى ويكتشف ترانيمها.

   ففي خضم هذه التكهنات التي كانت تروج في سانت بطرسبورغ آنذاك عن حقيقة سبب وفاة تشايكوفسكي، كان السؤال الأهم الذي يدور حول ردة فعل كوليا والموقف الذي من المفروض أن يتخذه، وكيف له أن يبرهن عن امتنانه لمن علّمه وكوّنه.

   السؤال هو كيف سيرد كوليا الجميل للأخوين تشايكوفسكي اللذين علماه الكلام وتذوق الموسيقى، يبدو أن أفضل ما يمكنه فعله تجاههما هو التزامه الصمت! صمته هذه المرة هو شعار شكر وامتنان لهما!

عرض مقالات: