مكثت قراءتي عميقا في روايتها (الصمت) متأملاً في قسوة الشرط الاجتماعي الذي حولته الخيميائية الهام عبد الكريم حجرا سرديا كريما منحوتا بصيغة امرأة محكومة بالصمت ، ومن تجربتي في قراءة الروايات ، لم اجد شخصية نسوية  تتجاور مع شخصية تلك المرأة العراقية  البصرية الصامتة وماتركتُ الرواية إلاّ بعد كتابتي دراسة عنها ... الدرس الروائي  هنا : هو كم كابدت الروائية إلهام وهي تناور الكلام لتتخلص من غواياته ، أثناء نحتها صمت تلك المرأة ؟!، على امتداد صفحات الرواية ، وهي تحاول تعويض القارىء بمشهد خلسة ليل .. أو إلقاء أيقونة  أو أكثر ، ليقوم القارىء بتنضيد  كل ذلك ربما ليحصل على وجيز سيرة المرأة الصامتة ، وبهذا الجهد تجاوزت إلهام : تجربتها الروائية الاولى (الماء والنار) ... في روايتها  الثالثة (نساء) قطعت شوطا جميلا في السرد ومفارقا لتجربتيها السابقتين ، وهي تثبت المحذوف من نسوة بصرة التعايش السلمي في تلك السنوات وتلقي شبكات سرودها الخمس بمهارة فائقة.. الأمر الذي دفعني للكتابة النقدية عن (نساء) .. وبين قوسيّ الصمت / نساء ..أصدرت  إلهام عبد الكريم مجموعتين قصصيتين : (منحنى خطر) و (انزلاق)

(*)

 انتقلت  الروائية إلهام من غابة التروية وفتنة القص الى رشاقة الصفحة القصصية في ( ..... وتحب الورود ) وهي تطرز منمنمات أجناسية بصيغة (قصص قصيرة جدا) مساحة القصة القصيرة جدا تتوزع بين الصفحة أو نصف الصفحة ، تلتقط فيها ،المفارق والغرائبي وترشقه بوجيز الكلام ، وهناك قصص قصيرة جدا بمقاس سطر أو سطرين .. وهذه القصص قليلة جدا، متناثرة بين الصفحات وتحت عنوان (فوضاها) تبدو الولادة الأولى لقصص السطر الواحد. وتحت عنوان (رسائل نصية ) تترواح مقاسات النصوص بين السطر والسطرين وثلاثة اسطر . بالنسبة لي  من ضمن ثريا النصوص ، التقط هذا السطر القصصي الباذخ ، الذي عنوانه (ظل) (حلق العصفور في السماء بواقعية شديدة بينما راح ظله يطير فوق الأرض بشاعرية !).. لندع المخيلة وحدها تتأمل في هذه اللقطة السينمية التلقائية بشعريتها .. لكن القليل سيكون هو الغزير الجميل الرشيق في  مجموعتها القصصية القصيرة جدا ( شرفة بيتها السعيد ) فالقصص القصيرة جدا هنا، أشبه بلقطة صورة عبر الموبايل ، لكنها صورة متأتية من خبرة  الروائية والقاصة مع السرد وهي ليست بالخبرة القصيرة .. في (شرفة بيتها السعيد) نكون أمام مثنويات جمالية .. تضادات واخزة .. وغواية فعل القراءة يورط القارىء في كتابة نصوص أثناء القراءة  ولاتخلو ورطة القارىء من خسائر باهظة .. لأن الجملة القصصية لدى الروائية إلهام ليست انفعالية بل نتاج تجربتها في السرد والقراءات المتنوعة ..التقط هذه الشذرة القصصية (يواصل حديثه المعاد وهي تتأمل الحوض وتفكر لو أن لها ذاكرة هذه السمكة الجميلة . ) أرى هذا النص يحتفي بثراء خاص ، ويقول الاهم من خلال سطرٍ واحد

على مستوى الفعل لدينا : يواصل -------- تتأمل --------- تفكر

على مستوى الاسم : حديث ------- حوض ----- ذاكرة ------- سمكة

هو يكرر نفسه عبر كلامه المعاد ، وضمن مسكوت عنه شفيف . هو يعلن عن نفسه بطريقة فجة ، هي تلوذ بكلام عينيها، ويحيلها التأمل الى التمني وهي مشدودة لجمال الكائن الهاديْ في يقظة مائه .المشهد النصي ، يكتفي برصد مايجري بحياد مطلق ، تاركاً الكلام لفطنة القارىء.. وها انا بسبب غواية رشاقة النص تكلمت أكثر من النص نفسه .           في سطورها القصصية جدا : تمجد أعراس الطبيعة بالأقل من الكلام ، تنظف السطر القصصي من عتمته (قال جمالك يطفىء نور الشمس ، في ظنها أنه قال جمال روحك ينير الكون كله. ) مابين القوسين سطرٌ قصصيي جدا، بسرعة الضوء ينقلنا من المعنى الى معنى المعنى ، في قوله خشونة الرجولة ومن ظنها يستنير الكون .. وفي سطور قصصية أخرى سنكون مع الترشيق الغرائبي .. بهذه التنويعات السردية تنهض السطور القصصية شموعاً تضيء ولاتذوب ..

(*)

تتنوع سطور القص .. جدا. .يلتقط السطر القصصي مشهدا يوميا، ثم يفلتره بالترشيق ، مثبتّا المحذوف بإنزياح لذيذ

(يرتشف استكانة شايه على مهل حالما بتذوق السكر الذي لم يذب ، وهي تواصل شرب شايها  المر كما تحبه . ) هذا السطر القصصي، تقنياً يعالج التناظر كدعم للتمييز : كلاهما يشرب الشاي نفسه وفي المكان نفسه ، وحدهما ، هذه التفاصيل قالها السطر القصصي بمهارة الحذف والاقتصاد الدلالي والتصدي للعوائق اللغوية ،يومىء السطر الى عنصر المفارقة وهذا العنصر من استراتيجية القصة القصيرة جدا ، وعنصر المفارقة يتجسد كالتالي :

هو على مهل ------------ هي تواصل

هو يشرب شايا وفق مخياله : حالما بتذوق .. ----------- هي شايها المر كما تحبه

(*)                                                                                                                          

هذا السطر القصصي التالي، يحيل الى أحداث جرت قبل النص ( نبهها ..اختيارها ليس موفقا..وحين أدركت ..لم يعد هناك من والد تخبره بصدق تنبؤاته ..) .. ما قبل النص اجراءات التنبيه العائلي ، لو كان النص خارج اجناسية القصة القصيرة جدا لحدثت تداعيات تجسد مشاهد التنبيه ..لو كان الجنس الادبي رواية ، لأستغرق التنبيه فصولا ، لكن آليات القص القصير جدا تكتفي بمهارة الحذف واشراك مخيلة القارىء، والأهم في السطر القصصي جدا هو لا اكتراث الابنة للفعل الاستباقي الذي أعلنه الأب .. والمسكوت عنه في النص الطرف الثالث المسبب لكل هذا الخراب.. وهنا تكمن ضرورة اتصالية انسجام بين فعل القراءة والتذوق شبه المكتمل للنص .

(*)

خبرة منتجة السطور القصصية جدا ، جعلتها تحسن الاصغاء جدا للدرس الباشلاري (غاستون باشلار)  وهو يوصينا (المؤلف يجب ان يكون قارئا متيقظا الى أقصى حد ) لقد قامت المنتجة بحذف الكثير من نصوص هذه المجموعة كما قامت  باعادة صياغة النصوص التي بين أيدينا الآن، لذا لم تجعل سردها  مشيدا من لغة التوصيل ، بل سعت نحو شعرية المسرود و جعلتها تنبجس من انهمار لغوي في السطر القصصي وتلك مسألة ليست هينة .. ومن مخاطر هذه الصنعة السردية القصيرة جدا ،هو ما أصطلح عليه (انفلات اللحظة القصصية) ،لقد كانت إلهام  عبد الكريم حذرة بهذا الخصوص فحاولت تحصين سردها ،بتقنيات : الحذف ، والتصدي للعوائق اللغوية ، وضرورة توفير قفلة تحقق الدهشة ، وميزت بين شرط التركيز السردي ، وتوصيل رسالة النص الى القارىء/ القارئة و حسب ( أريك برغر ) بهذا الخصوص ان القصة القصيرة جدا ( قصة تصل الى هدفها دون اهدار للكلمات ) وإذا كان هذا الشرط ينطبق على القصة القصيرة جدا التي قد تكون من عدة أسطر ، أو بحجم الكف ، فما العمل، حين تكون القصة سطرا قصصيا واحدا ؟! هذا السؤال تجيب عنه الاسطر القصصية القصيرة جدا في ( شرفة بيتها السعيد ) للروائية والقاصة إلهام عبد الكريم التي ترى أحيانا أن معنى النص يكتمل بأصغر وحدة قصصية كما هو الحال في النصوص التالية : ( في العلبة السوداء وردة بيضاء) ، (بهامش صغير من الحياة ترك بصمة ناصعة) ، (بعد ان عبر الطائر الأخير..كنس بجناحيه زرقة السماء)..

(*)

في القصص القصيرة جدا ، من الضروري جدا توفر التركيز السردي ، لكن لا نذهب بعيدا ونتصور هذا الجنس السردي  : لعبة لغوية ، كما تورط بها البعض وتحول هذا الجنس السردي الرشيق الى ( تغريدة ) وأخواتها ..!! فهذا الجنس الرشيق وبشهادة الدكتور حسين المناصرة هو بحق (الكتابة العليا الى حد ما في المجال السردي وان كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية ) ..السؤال الآن كالتالي اذا كانت الرواية الروسية خرجت من (معطف) غوغول ، كما أعلنها دستويفسكي فهل الرواية الامريكية ، خرجت من حذاء همنغواي، أعني هذا السطر القصصي الذي يعتبره همنغواي من أجمل نصوصه ( للبيع : حذاء طفل لم يرتدِه أحد ) .. بعد أكثر من ستين عاما سيكتب غرامي جبسون ، هذا السطر القصصي الرائع ( ثلاثة ذهبوا الى العراق . واحد منهم عاد ) أي مخيلة روائية ستندلق من ذاكرة القارىء العراقي تحديدا وهو يقرأ سطر جبسون ..

(*)

الروائية والقاصة إلهام عبد الكريم تحاول تثبيت توقيعها في تجربتها السردية الجديدة .. أعني كتابة السطر القصصي القصير جدا، فهذا السطر يشتغل على ضرورة توفير هذا المثلث : الفعل ----  الذروة ----- الصدمة

وستلتقط قراءتي مختارات من شغلها الجديد ، دون ذكر عنوان السطر القصصي جدا ، حرصا على انسابية فعل القراءة :

*(بمشطها الأبنوسي تفرق شعر الأيام . تجدل سواده .. وتدس بياضه في عتمة عينيها . )

نلاحظ كيف حافظ النص على الشرط الثلاثي وأضاف اليه شعرنة السرد ، وكيف التقط فعلا نسويا مألوفا وشحنه بعلاماتية موجبة .

*( في خزانتها رسائل : قلوبهم نبض أوراقها )

في  هذاالنص يتم تحريك الساكن المجفف  الخبء (رسائل) ، من خلال حيوية المضمون (قلوبهم)

*( استحوذ على كل شيء ومضى بلا أثر )

نص عميق يومىء الى مسافة  زمنية شاسعة بين فعليّ (استحوذ) -------- (مضى)

*(في استراحته ، جلس على صخرة صلدة )

لا فرق اذن بين حالتيّ : العمل / الاستراحة !! : هذا مايبثه لنا وجود الصخرة ..

وضمن السياق نفسه نقرأ النص التالي ، من ناحية غياب او تغييب الفرق

*( لايحب تكرار مايلبسه .. كان يأتي كل يوم بشكل جديد.. ليخفي سواد قلبه وسوء نواياه ) ..

للحب سطر قصصي أطول وذلك امتياز المحبين :

*(غادر الصورة لينام الى جانبها . أغمضت عينيها بقوة حتى لايتلاشى الحلم )

*(أمسكت ذراعه مرتجفة .. ضمها اليه متمنياً ألا يعود التيار الكهربائي )

النصان ظلمتهما زرقاء الندى..

(*)

على مستوى التقنية ، ركزت المؤلفة على ضمير الشخص الثالث ، ربما لاجتراح مسافة بين السارد وما يسرده ، كما استعملت  بمهارة اللقطة السينمية في مفصل ( لقطات سينمائية ) بمقياس سطر قصصي جدا.. والمهارة نفسها تضيء مفصل ( ديالكتيك ) أما المفصل الثالث ( حبيبي العراق ).. فهو يختزل تراجيدتنا الوطنية  .. وصولا الى المفاصل التالية : (مخيمات ) و( شرفة بيتها السعيد ) و( طوابع ) و (رسوم) و (سجادات ) .. في هذه المفاصل تطبّق إلهام بجدارة الشرط الاجتماعي لهذا الجنس من السرد ، وقد  تجاوزت مايسميه النقّاد ( انفلات اللحظة القصصية ) فهي استعملت الاجتماعي الذي هو الظل البغيض للبعد السياسي مما جرى ويجرى في بلادنا ، لكنها حافظت على رصانة الفني في كتابتها .. ثم ينتقل السرد من المفرد الذي يمتلك عنوانا معينا ، الى ما سوف أطلق عليه حزمة سردية معقودة بشريط عنوان رئيس يليه عنوانات متفرقة ، ومن خلال هذا السرد الجمعي سنحصل على صور متنوعة للحدث نفسه بصيغة  مختلفة مع اختلاف منظور اللقطة / التناول ..

(*)

فعل القراءة مشروط بوعي القارىء وخبراته مع الحقل المقروء.. بالنسبة لي اشهدُ أن القراءة وتكرارها منحتني سعادات الاصغاء لهذا الفن السردي : السطر القصصي القصير جدا الذي تألقت فيه الروائية والقاصة إلهام عبد الكريم

*شرفة بيتها السعيد : قصص قصيرة جدا/ صدرت عن دار المكتبة الأهلية  في البصرة  21/ 12/ 2018 ومقالتي هذه   مقدمة المجموعة القصصية

عرض مقالات: