واجهت المجلات الادبية في العراق والدول العربية مأزقاً خطيراً في الانتشار والمواصلة والتجدد، حتى اصبحنا اليوم، لا نبكي او نذرف الدموع على مجلات عربية احتجبت امثال "الرسالة" المصرية، و"الاديب" و"الآداب" و"شعر" اللبنانية، بل لا يثيرنا استمرار صدور اقدم مجلة مصرية راسخة مثل "الهلال" التي اسسها جرجي زيدان عام 1892 والمحزن اننا ننظر اليها الآن نظرتنا الى الاقارب المسنين، حينما يتفق الجميع على احترامهم، ولكن لا احد يزورهم كثيرا.
وحتى في العالم الغربي، ومن خلال الاستطلاعات التي تجريها اشهر الملاحق الادبية يبدو ان المجلات الادبية قد اصبحت مثل الديناصور الذي انقرض ولم يترحم عليه الا المشتغلون في المتاحف والحفريات، ففي مثل هذا العالم المكتظ بالإمكانات المادية الهائلة تتراجع المجلات الادبية شيئا فشيئا لتحل محلها، على احسن الظروف المجلات الثقافية العامة، وهي مجلات شبيهة بالفاترينات الزجاجية التي تعرض الف صنف وصنف ولكنها لا تحدث حركة ولا تحيي اثرا ولا تكتشف موهبة.
ولكن الغربيين واعون بهذه الازمة التي تعانيها المجلات الادبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن مظاهر هذا الوعي إثارة القضية بين حين وآخر ومناقشة جوانبها المختلفة وتلمس الحلول لها.
الطريق العام الى القراء
ان اهم وظيفة للمجلات الادبية، في اطار الهيمنة الثقافية الراهنة والمتزايدة، هي ان تتيح العديد من الفرص والتجارب والمحاولات الاولى للكتاب كما فعلت مجلة "الآداب" لسهيل ادريس في العقود الخمسينية والستينية والسبعينية من القرن الماضي، وكذلك للتبادل والملاقحة والتجريب بين الادباء كما حصل في مجلة "شعر" في اواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات، وهذه كلها اهداف يمكن ان تتحقق من خلالها السمات والهويات الحقيقية التي تختلف عن السمات والهويات التجارية القائمة على المنافسة واخلاقيات السوق، خصوصا وان ضغوط السوق الادبية تعد اليوم قاسية ومتزايدة على الجميع، فالتغير في حركة رأس المال ونفقات التوزيع الذي يؤثر تأثيرا خطيرا على المطبوعات كافة، قد حدد المجلة الادبية ووضعها على الهامش ما لم تستطع الارتباط بعملية الترويج للكتب، عن طريق عرضها والتعريف بها او البحث عن انحياز سياسي او شبه سياسي.
ومن الجانب الآخر، نرى اننا اذا اخذنا تعبير "المجلة الادبية" بمعنى الدورية التي تعنى بالإنتاج الادبي الفعلي للعصر، وتقوم بالنسبة للأدباء مقام الندوة ورف الكتب، وتمكّن الامزجة او الصرعات والاتجاهات الادبية الجماعية من الثبات، وتحمي القيم الادبية من طغيان التجارة او السياسة، فلا اعتقد ان في العراق او في مصر او لبنان اية مجلة رئيسة ومركزية من هذا النوع الا مجلات وزارات الثقافة او الاعلام في الوطن العربي، ومنها على سبيل المثال مجلات: الهلال المصرية والاقلام العراقية والعربي الكويتية.
ولو تفحصنا حالياً العشرات بل المئات من المجلات او الملاحق التي تصدر من العديد من الصحف والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية في الوطن العربي، فإننا لا نجد اي تحقق لتصورنا المأمول للمطبوع العربي، فأغلب هذه المجلات وملاحق الصحف لا تعكس في الميزان العام المناخ السائد وسط جماعة الادباء، وانما تعكس الهموم التي تشغل بال الجمهور العريض من المثقفين والصحفيين والمهنيين والقراء من كل نوع، بل انها لا تهتم بتصنيف وتقييم ما يقع في دائرتها من ادب معاصر، ولا تشغل نفسها على نحو ايجابي بخلق بيئة مثيرة من التبادل الادبي المشترك، ولا تستقر عند منبع الادب بمقدار ما تستقر عند نقطة توصيله، وهي ايضاً، وبعيدا عن التجني اشبه بمجلات البقالة الممتازة لا بالمستنبتات المفيدة.
ولو قارنْنا بين المجلات الراهنة في مصر ولبنان وزميلاتها قبل عقدين او اكثر، لوجدنا القديم افضل من الجديد والسابق اقوى من الراهن، بل لا نجد شخصيات ادبية مبدعة تحركها وتوجهها، مثلما كانت الحال في الماضي حين حرك احمد حسن الزيات مجلة "الرسالة" او ادونيس مجلة "مواقف" على الرغم من ان المجلات الادبية القديمة كانت تعنى بالسياسة والدين قدر عنايتها بالأدب.
وحتى نخلص الى استنتاج مقنع وحصيف عن دور المجلة الادبية نقول: تنشأ المجلة الادبية بشكل عام من الحاجة التي تشعر بها حفنة من الادباء لتجميع القوى حول فكرة جديدة او مفهوم جمالي، حول ما يريدون ان يقدموه في نتاجاتهم وان ينتفع به قراؤهم. ومن ثم تفتح المجلة الادبية الطريق امام هذا الجمهور من القراء فتعده وتشكله مقدما لتقبل الفكرة الجديدة او المفهوم الجديد.
وهذا ما حدث لمعظم المجلات الادبية ذات الذيع الصائت في اوربا كالمجلة "البيضاء" التي انشأها الرمزيون ودعاة الحركة الرمزية في الادب الفرنسي في اواخر القرن التاسع عشر، وكذلك المجلات التي ظهرت في فرنسا وانكلترا في فترة ما بين الحربين العالميتين، منها مجلة "الروح" لأندريه جيد ومجلة "منتصف الليل" لجان بول سارتر ومجلة "المعيار" للشاعر ت. س. اليوت وغيرها الكثير.
مجلات عربية رائدة
ولو شئنا الوقوف على اهم المجلات الادبية الرائدة في مصر ولبنان خلال القرن العشرين ولعبت دورا فاعلا ومؤثرا في المشهد الادبي والثقافي العام وما زالت تجلياتها واضحة وملموسة في مسيرة هذا المشهد لبرزت في ذاكرتنا وذاكرة الاجيال التي سبقتنا مجلة "الرسالة" المصرية بتحرير كاتبها الاستاذ المبدع احمد حسن الزيات ومجلة "الاديب" لصاحبها الكاتب اللبناني البير اديب ومجلة "الآداب" للباحث والروائي اللبناني د. سهيل ادريس ومجلة "شعر" لعرابها الشاعر اللبناني يوسف الخال.
ويبدو للوهلة الاولى ان الاستاذ الزيات قد اصدر مجلته في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، أي حال عودته الى القاهرة قادما من بغداد بعد ان مارس التعليم في معاهد العاصمة العراقية شأن الاساتذة المصريين في ذلك الزمن ومنهم الدكتور زكي مبارك واستاذ القانون الشهير الدكتور السنهوري، وكان للزيات صلات حميمة بالرصافي والزهاوي والبصير والشبيبي وصبحي الدفتري محافظ بغداد "المتصرف" وقتذاك. وقد سجل العديد من مشاهداته حول الحياة والمجالس البغدادية في "الرسالة" ضمن اعداد مختلفة.
توقفت مجلة "الرسالة" خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، بعد ان استقطبت اسماء كبيرة في عالم الادب امثال طه حسين – صهر الزيات واب زوجته- والعقاد ولطفي السيد ومبارك والزهاوي والرصافي والكرملي والهلالي وغيرهم. وحينما اعيد اصدارها بعد الثورة المصرية 1952 تلبست بوشاح الديناصور المنقرض، على الرغم من دعم وزارة الثقافة المصرية لها كمطبوع رسمي، ولكنها ماتت بموت الزيات كأي مجلة رائدة كانت تعنى بالسياسة واللغة والدين قدر رعايتها الادب.
مجلة الاديب في 40 سنة
هناك شيء ما في تاريخ الحركات الادبية يجعل بعض الادباء او مشهورين يتردد ذكرهم على كل لسان وفي كل كتاب، وتصدر عنهم عشرات الدراسات ويبقى صداهم حيا في فترات لاحقة. بينما ادباء آخرون يكونون ملء السمع بنتاجهم ونشاطهم ومواقفهم.. ثم يختفي ذكرهم فجأة ويفقدون المساحة التي استحقوها ويسدل عليهم الستار!
اطرح هذه الحقيقة وفي ذهني من الادباء الاستاذ ألبير اديب الذي يحتاج اكثر من وقفة او اطلالة في عمله الفردي بإصدار مجلة "الاديب" خلال الاعوام "1942- 1983" حينما اعطاها نصف اسمه كما اعطاها نصف عمره.
بدأت مجلة "الاديب" شبابها مع شبابه وانتقلت شيخوختها مع شيخوخته. ولد ألبير اديب الشاعر والصحافي والاديب اللبناني في المكسيك عام 1908 وغادرها وهو في الخامسة من عمره مع والدته متوجهاً الى الاسكندرية حيث درس في مدرسة "الفريز" ومنها انتقل الى مدرسة القديس يوسف المارونية في القاهرة. وكان له ديوان شعر تحت عنوان "لمن" وقد عرف ديوانه هذا بأنه مجموعة من الشعر الرمزي المطلق الذي لا ينتهي بوزن او قافية.
لقد حلقت الاديب بفعل ألبير اديب بالمنجز الخمسيني الشائع للشعراء الشباب العرب في ذلك الوقت، بتفعيلاتهم الجديدة او في سياق الشعر الحر الى سماوات النجوم، خصوصا في نشرها قصائد السياب والملائكة والبياتي والحيدري، ولمقالات نهاد التكرلي ويوسف عبد المسيح ثروة ونجيب المانع، وهي التي توجت قاصنا العراقي الرائد عبد الملك نوري كأفضل قاص عربي في احدى مسابقاتها الادبية. كما حافظت على اعتدالها لا تتطرف او تنساق في تيارات الحداثة او تنجرف في صراعاتها، وبقيت كذلك محافظة على اصالتها وطابعها الخاص المميز.
الآداب في نصف قرن
ثم جاءت مجلة "الآداب" اللبنانية بإصدار الدكتور سهيل ادريس بعد بيان شهير القاه في دارة الندوة اللبنانية لمؤسسها ميشال اسمر تحت عنوان "مم يشكو الادب العربي الحديث" عام 1953 وقد استقطبت هذه المجلة جميع الشعراء والقصاصين والنقاد في الوطن العربي، وكان لها الاسبقية الاولى في اشاعة وترجمة الادب الملتزم والادب الوجودي ومؤلفات كولن ولسن، كما لها فضيلة نشر رواية نجيب محفوظ الشهيرة "اولاد حارتنا" بعد ان امتنعت دور النشر العربية كافة عن اصدارها امتثالا لفتوى الازهر ضدها. ومن المقالات الشهيرة لهذه المجلة هي "رواد القصة القصيرة في العراق" بقلم سهيل ادريس نفسه، فضلا عن المعركة الادبية التي دارت بين صلاح عبد الصبور وكاظم جواد وناجي علوش حول قصيدة السياب "في المغرب العربي". وقد اصدرت المجلة ارقى ملفين للقصة القصيرة في الوطن العربي الاول في عام 1973 والآخر في بدايات العقد التسعيني المنصرم. وحينما اعلن الدكتور سماح سهيل ادريس اضطراره الى إيقاف المجلة عن الصدور في مطلع الالفية الثالثة احس الكثير من الادباء بالألم والحزن.
مجلة شعر واصطدامها باللغة
ليس من مجلة من المجلات العربية اثارت زوبعة من الاستحسان والاستهجان معا بقدر ما اثارته مجلة "شعر" ليوسف الخال بسبب مشروعها الحداثي الراديكالي المثير. وعلى الرغم من عمرها القصير 1957- 1963 الا انها كانت بمثابة الحجر الذي حرك مستنقع الحداثة والتحديث في الادب العربي المعاصر، اذ يقول انصارها انها دعت الى الحداثة ونقلت الشعر العربي من حال الى حال في حين يقول خصومها ومنهم محمد الماغوط وجورج غانم اللذين تعاونا معها في البداية انها كانت حركة مريبة متربطة بدوائر اجنبية، ولم تكن حركة بريئة منبثقة انبثاقاً طبيعياً من بيئتها ومن الظروف الموضوعية للشعر والادب العربي في تلك الفترة. لقد تعاون مع الخال جمهرة من الشعراء اللبنانيين والفلسطينيين في اصدار المجلة امثال ادونيس وانس الحاج وتوفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا، فضلا عن مشاركة ارقى الشعراء العرب في المساهمة فيها كالسياب وسعدي يوسف وسركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ولكن صرامة الخال وتصريحاته النارية حول جهالة العروبيين ومرض العقل العربي جعله يكتب افتتاحية في آخر عدد من مجلة "شعر": تتوقف عن الصدور بسبب اصطدامها بجدار اللغة".