لو مرت الشعوب بما مر العراق به من محن وتقلبات وتغييرات وثورات وانقلابات وحروب، لأصبح لديها قاموس بمفردات سياسة واجتماعية قل نظيرها، ولكن المشكلة ليس بحجم الكوارث والمتغيرات التي حدثت وتحدث في العراق، إنما في الوعي بها، بحيث تصبح التحولات الاجتماعية والسياسية مبنية على نتائج استقراء تلك الأحداث، هذا ما نفتقره في الدراسات الإجتماعية، سواء على مستوى الأحزاب التي يهمها قياس التغييرات في المجتمع، أو على مستوى الجامعات ومراكز البحوث وهي تعايش حالات قل نظيرها في توليد مفاهيم جديدة قد تغاير سياقات عالمية بنت مفاهيمها على تجارب اقل حضورًا من التجربة العراقية الممتدة من عام 1958 حتى اليوم. نحن سعداء على المستوى الثقافي عندما نفكر في الذي يجري في مجتمعنا، من العودة إلى حنا بطاطو وكتابة المفصلي عن تاريخ العراق، ولكن هذا لايكفي، لأنه هو الآخر محدد بسقف زمني، بالرغم من الطروحات المفتوحة والدقيقة، كأي فكر مفصلي في التاريخ.  فالمتغيرات التي حدثت بعد الفترة التي درسها حنا بطاطو تكشف عن تغييرات جذرية في بنية الطبقات الاجتماعية، وفي الخطاب الأيديولوجي والسياسي للطبقات ، مما يعني أن ثمة ثقافة مفاهيمية جديدة ولدت في هذه المنعطفات لم يجر رصدها والتمعن بجذورها، والكشف عن ماهيتها وقدرتها على التشخيص. ومن هنا، لم نجد أيضا لدى القائمين المتحكمين بمقادير السلطة في العراق، وهي التي تملك جامعات ومراكز بحوث وأموالا أية دراسة اجتماعية عن نوعية الخطابات الجديدة التي أفرزتها التطورات بعد 2003. هذا يعني أن العجز الفكري ليس قصورًا في بنية ثقافة المؤسسات المتحكمة ، وإنما  في قلة الوعي بما يحدث، متصورين ان الإمساك بمقدرات العراق يتم عبر الميزانيات وموارد البلد والتحكم في صرفها وتسويقها لصالحهم، ويتركون المؤثرات الجيوثقافية بعيدة عن وعي الناس التي بدأت، في أقل من عشرين سنة تعي أنها مغفلة ومحذوفة من تصوراتهم وبرامجهم، وأنها أخذت على حين غفلة من أن التيارات الإسلامية لم تكن جديرة بالإجابة عن اسئلتها؛ في العمل والحرية والتنظيم والعدالة والقانون والمساواة، وإذا بخطاب الجهات المتسيدة، يفشل حتى في تبرير انتكاسته المخزية عن تنمية البلد وقطاع الخدمات. مما يعني أن هذه الفئات لا تملك أدنى تصور عن معنى الحكم، وعن معنى أن يكون لها خطابها الحداثوي، وعن معنى ان تكون حاضرة في نطاق الأنظمة العالمية في القرن الحادي والعشرين. عليها أن تغادر دون رجعة. وما تصاعد الوعي الشعبي الذي يتمثل بدور الساحة، إلا دليل على عمق هذا الوعي وتجذره.

أعود لأقول لو أن شعوبا مرت بما مر العراق به، لفتحت معاهد ومراكز بحوث تدرس الظاهرة التي حدثت في بلدنا ولم تحدث في العالم، ولكن الوعي بالتاريخ يحدده القصور في فهم آليات اشتغاله.

ما المطلوب في مثل هذه المرحلة من وعي؟ اقرأ مقالات كثيرة عن العودة العالمية لماركس، مع أن ماركس لم يغب عن ثقافة واقتصاد وسياسة العالم، ولكنه يبقى الهاجس المخيف الذي يكشف عورات النظم التي لم تتعلم من دروس التاريخ، أبدًا يشكل حضور ماركس في حياتنا الإجتماعية والثقافية والسياسية، أكثر من حضور التيارات اليسارية نفسها، لسبب بسيط هو أن منهجية ماركس ليست شعارات، ولا هي مقولات دينية عقائدية، إنما هي استبصار مبني على تصور عملي لما يحدث في الواقع، فتجدها في اضطراب السوق، وفي الغلاء واثراء الطبقات الطفليلة، وفي الاسئثار بالهيمنة الاقتصادية، وفي تهريب العملة، وفي التغطية القانونية على الفساد، وفي الإستئثار بوظائف الدولة، وبتخصيصات مالية لأنفسهم، هذا هو ماركس دون ان يوزع منشورًا أو يصدر جريدة ناطقة باسمه.  مسألة بسيطة، عندما لا تعي الأنظمة المتحكمة ما يجري، ولا تقرأ حركة التاريخ، ستغلق على بيتها نوافذ الفكر، وعندئذ لن تنجيها العودة إلى الكتب القديمة وحتى المقدسة منها، لأنها تتحدث عن تجارب ماضية وليست مثل تجارب العراق التي نشأت بفعل داعش والفساد والاستئثار والطائفية والمحاصصة والتمسك بالسلطة، والتي مازالت تتحكم في مقدرات بعض الفئات. لا شيء من هذا في كل الكتب المقدسة، لماذا أذًا لم يُلتفت إلى ما يحدث في العراق ليؤلفوا قاموسًا جديدًا عن مفاهيم لم تمر شعوب أخرى بها؟

عرض مقالات: