طريق الشعب (خاص) – لندن

كانت آخر أمسية لموسم عام 2018 للمقهى الثقافي العراقي في لندن في مساء الجمعة 30 تشرين الثاني الماضي وقد إستضاف فيها الدكتور صلاح نيازي ليتحدث فيها عن سيرته الإبداعية والتي دونها في كتاب بعنوان "غصن مطعم في شجرة غريبة".

"  نرحب باسم المقهى الثقافي العراقي في لندن بأمسيته الحادية والثمانين بحضوركم ، واسمحوا لي باسمكم ان اعرب عن الشكر والتقدير لضيفنا الدكتور صلاح نيازي على قبوله لدعوتنا، واننا في أمسيتنا هذه في حضرة قامة إبداعية عراقية.. وأعترف لكم بأني وجدت كلمات التعريف به وتقديمه لا تفي حقه وغير قادرة على تغطية كل الحقول الإبداعية التي حرث فيها ..ونمت فيها النتاجات المتنوعة في الشعر والنقد والترجمة وهناك حقول أخرى نتمنى أن يأتي عليها ضيفنا الكريم في حديثه".

 بهذه الكلمات إستهل السينمائي علي رفيق الأمسية وأضاف :" وبدلا من كلمات التقديم التقليدية أدعوكم لمشاهدة توليفا أعلانيا مصورا بالفيديو للأمسية والذي يعرض بعض عناوين محاور أمسيتنا".

وفعلا شاهد الحاضرون مادة فيلمية على الشاشة الكبيرة أستعرضت جوانب من حياة الضيف فكانت للقطات يتحدث فيها نيازي من خلال عدسة الكاميرا للمشاهدين.. ومن بين ما قال:

-ولدت في مدينة الناصرية قبل الحرب العالمية الثانية ونشأت ودرست فيها وكانت ثقافتي تتركز في الشعر.

- انا الان مشغول ومنذ سنوات بكتابة مقالات ودراسات عن القراءة التحليلية فالشعراء العراقيون لا يقرأون النثر.

- الشعر الكلاسيكي بالنسبة لي كيّفته الى العصر الحديث.

-لم أعاد احدا ولم أناقش أحدا ولم أؤذ أحدا في كل حياتي، في كل عملي، في الإذاعة والتلفزيون ،الجميع لديّ محترمون رغم إختلاف الآراء.

-العيش في بغداد كان صدفة..الموت صدفة..الرزق صدفة..كل شيء بالصدفة.

-نتذكر العراق من الصباح حتى المساء.

- لكل كتاب ترجمته غاية وهدف.

-طرحت فكرة مفادها كيفية قراءة رواية "يوليسيس"لـ "جيمس جويس".

-الأفكار الشكسبيرية مهيمنة عليّ تماما..مسرحيته "مكبث" بالذات تنفرك من كل قتل.

-لم يثرني نهر "التيمس" مثلما يثيرني نهر "الخابور":

ايا شجر الخابور

مالك مؤرق

كأنك لم تحزن على" ابن ظريف".

-الفرات لا يعدله نهر آخر على وجه البسيطة.

-أنا غريب لكنني غصن مطعم في شجرة غريبة.

وبعد نهاية العرض على الشاشة قال مدير الأمسية علي رفيق :" بعد هذا الإيجاز والتكثيف الفيلمي ..آن لي أصمت لأصغي معكم لحديث الضيف".

وبإسلوب شيق سرد نيازي حكاية كتابته لسيرته الذاتية في كتاب التي جاءت بالحاح من احدالاساتذة الجامعيين الذي ارسله الى بيروت لطباعته وهناك ضرب صاروخ البيت الذي فيه الكتاب فذهب الاثنان.أستعرض الكتاب التطور الثقافي ولم يهتم كثيرا بالسياسة الا إضطرارا.. وتحدث عن نشأته وسط عائلته في الناصرية تلك المدينة التي كان اهم مافيها محطة السكك الحديد وكان القطار تدشين العصر الحديث حيث يغلب في صناعته الحديد ..تلك المحطة التي كانت مكانا لتجمع الناس المسافرين ومودعيهم حيث  البكاء فيتخذ الوداع صيغة الفراق ويتخذ الاستقرار صيغة الموت. اما في بغداد قال انه سكن فيها  بمحلة الشواكة التي كانت مشهورة برياضييها على العكس منه، هو القادم بلغته القروية ..وهؤلاء كانوا قراء جيدون للأدب العربي فقال انه تعلم منهم ذلك وكانوا يعرفون اكثر منه في السينما وابطالها ومحاكاة مواقفهم ومسيرهم.

 بعد ذلك تحدث الضيف عن كيف عمل في الاذاعة والتلفزيون.. لكنه بعد دخول القطار الامريكي ومقتل عبد الكريم قاسم وتنمر الناس أنذاك.. إذ أنتشرت في البلاد فنون التعذيب وقص الألسن والإغتصاب وإمتلأت اماكن التوقيف التي تهان النفس البشرية فيها مما أضطره للهجرة .. وقال انه وصل لندن في عام 1963 وكان أبرد شتاء وأنه كان لا يملك غير ثياب الصيف وانه كان يعاني من شظف العيش وكان يخشى لقاء صاحب البيت لأنه لا يملك الإيجار.. لكن بعد ذلك تفتحت له اوربا خضراء يانعة.. وكيف انه فيها قرر عدم النظر الى الماضي .. وكيف انه أحب قطاراتها لانها تغذ السير دائما الى أمام .. فأبتدأ رحلته بكتابة مقالة بتكليف من مطبوع عربي فكانت مكافأتها خمسين جنيها استرلينيا استطاع ان يسدد ديونه وايجاره .. وكيف انه تعلم من الناس هنا  التواضع والتراحم بينهم.. وقال انه تعين مذيعا ومحررا في محطة الـ "بي بي سي" (هيئة الاذاعة البريطانية) مما اتاح له الدراسة في الجامعة .

اما المحور الثاني للأمسية فكان جولة مع الكتب التي ترجمها الدكتور صلاح فتم عرض صور لبعض اغلفتها على الشاشة حيث شاهدنا اغلفة الكتب التالية : كتاب في تقنيات التأليف والترجمة، رواية يوليسيس باجزائها الأربعة التي قال عنها مترجمها نيازي في لقاء اجرته معه القناة التلفزيونية الرابعة :" هذه رواية تدرس ولا تقرأ" زكتاب "العاصمة القديمة"ومسرحية " ابن المستروينزلو" ومسرحيات شكسبير:"الملك لير"و "هاملت" و"مكبث" الذي ذكرعنها علي رفيق المواصفات التي يؤكد نيازي عليها وينبغي ان تتوفر فيمن يترجمها وهي معرفة ما يلي :

-التقنية التي كتب فيها شكسبير نصوصه الشعرية والمسرحية .

-ماهي اللغة في المسرحية الشكسبيرية فالمحكية الانكليزية تختلف عن اللغة في العصر الإيليزابيثي ,ويضيف الدكتور صلاح بأن لغة شكسبير تنطوي على عدة لغات.

- ويرى د. نيازي ان ايقاعات الشعر عند شكسبير موزونة مرة ومكسورة أخرى، محمولة على النثر في احيان كثيرة ،حتى انه يعطي نسبة لذلك تقدر بـ13% من نتاجه الشعري.

-الإستعارات الشعرية الشكسبيرية بأبعاد تراثية وفولوكلورية وتاريخية وعلمية.

ثم تحدث د.صلاح نيازي عن دراسته لأدب جيمس جويس وأكد على قوله بأنه نصح بدراسة روايته "يوليسيس" والتعامل معها ليس كوجبة غذاء وانما كدواء ..وان يقرأ القاريء منها صفحتان باليوم .. كحبوب العلاج .. لكي يفهمها .وبعد ان بثت المقابلة التلفزيونية قال نيازي ان استاذا جامعيا بريطانيا إتصل به وأخبره ان الرأي الذي طرحه في التلفزيون سيعمومونه على طلابهم فيقرأوا صفحات فقط في الاسبوع من الرواية لدراستها.

ثم عرج على خصائص ادب شكسبير وترجمته فقال ان الأصداء في أدبه أهم من الأصوات .. ويجب ان تقرأ مسرحياته ليس صفحة فصفحة انما يجب ان تقرأ كعمل سيمفوني .. فأن ذكرت كلمة بذور في أولها على المترجم متابعة نموها في النهاية حينها سيكتشف هل انها صارت شجرة خيرة أم خبيثة ؟

وأخذ د. صلاح مسرحية "مكبث"مثالا وكيف عمل على ترجمتها ..فجاء على ذكر المشهد الأول منها وهو ظهور الساحرات الثلاث وقولهن :

-متى نلتقي نحن الثلاث ؟

في الرعد؟

أم في البرق؟

أم في المطر ؟

فأوضح :" هنا شكسبير يحوّل (متى) يعني في أي وقت الى مكان ، فهو لا يعني هنا الزمان ،بل يعنى في أي مكان نلتقي؟ فهذه قدرة عجيبة عند شكسبيرتتجلى في تحويله للمكان الى زمان وبالعكس..كما سآتي بأمثلة أخرى ..اما في مثالنا (مشهد الساحرات) : متى نلتقي نحن الثلاث ؟في الرعد ؟ ام في البرق ؟ ام في المطر؟ لماذا قال الرعد لأنه كان يقصد صليل السيوف اما البرق فهو وميض تلك السيوف والمطر هنا هو الدم.. فتساؤل الساحرات الثلاث هو هل يلتقين في بداية المعركة أم في منتصف المعركة أم في نهايتها"

تلك هي تقنية شكسبير لذا يصعب على المترجم سبر أغوارها مالم يتقن تلك التقنية" فعلى الرغم من قدرة مترجم مثل جبرا ابراهيم جبرا ، ولغته الانكليزية العظيمة ، لكنه لم يتوصل الى تقنية شكسبير الذي هو في الحقيقة متحف للجزر البريطانية وأدبه يحتوي على كل الحروب والاحداث الاجتماعية  ..هو صندوق الدنيا ..هذا الرجل يجب ان نقترب منه بدقة متناهية". وعاد الضيف الى مثال الساحرات وما فعله جبرا في ترجمته فقال:" عند جبرا (متى نلتقي نحن الثلاث في الرعد والبرق والمطر) هذا لا يصح فجمع كل الازمان مرة واحدة في حين عند شكسبير يستخدم (أو) وهو يعني في أي منهم ثم يضيف جبرا مفردة من عنده وهي (كاللهاث) فأصبحت (متى نلتقي نحن الثلاث في الرعد والبرق والمطر كاللهاث)..وهذه المفردة الأخيرة غير موجودة في الأصل وهذه المفردة في هذا الموقف نابية لأن الساحرات الثلاث وخاصة الساحرة الأولى ذهبت من بريطانيا الى حلب حتى تسحر الربان .. فمن أين يأتي هذا اللهاث؟".

ثم جاء الضيف على أمثلة عديدة لتعابير انكليزية ومصطلحات لا يصح ترجمتها حرفيا لأن ذلك يبعدها عن المعنى المقصود.. وأورد أمثلة من شكسبير وعلى الأخص من مسرحيته "مكبث".

وفي القسم الثالث من الأمسية كان قراءات للشاعر صلاح نيازي لقصائد .. وقدم لها علي رفيق مدير الأمسية:

Best British Poetry 2015  -"ظهر إسم شاعرنا نيازي في كتاب(أفضل الشعر البريطاني لعام 2015) فمن عادة بريطانيا ، أن تصدر كتابا سنويا يضم أفضل الشعر البريطاني للعام الذي ينتهي ، وفي كل عام توكل هذه المهمة الى محرر جديد ليقوم بإختيار القصائد(وفي ذلك العام تم تكليف الشاعرة  .Emily Berryايميلي بيري

   وصدر كتاب عام 2015 وضم قصيدة "محنة الكمالي" لصلاح نيازي التي كتبها بالأصل بالعربية ومن

)Long Poem Magazin  ثم ترجمها ونشرت في مجلة ( لونغ بويم

 المتخصصة بالقصائد وكان من عناية محرري المجلة بهذه القصيدة أن نشروها كأول قصيدة في العدد ، كما وجهوا للشاعر دعوة في حينها الى قراءتها في مكتبة "الباربيكان" الشهيرة في لندن".

وقد قرأ الشاعر في أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن قصيدة "محنة شفيق الكمالي " فيما يلي بعض سطورها:

محنة شفيق الكمالي *

         صلاح نيازي

في كل عضلة زئير محبوس بالطبع

الإنسان في أقصى بدائيته

يحمل يديه كهراوتين

هنا في داخل الحلبة

   تنتفي كلّ أشكال الإنسان

يداه كالسابق آلتا صيد جارحتان،

    وما من رحمة.

الضربة القاضية صرخة

في أعلى درجات الخوف

في أعلى درجات الضعف

الحلبة’ نفسها كميزان الكيل

لا أهميّة للحجم، أو الطول، أو العرض

وفوق بنايات المحاكم عادة

تمثال أكبر’ من الحجم الطبيعي

يحمل ميزان العدالة

بوقار كلسي بار                                                                                                                     

وسيفا على الأهبة

أغرب كفتين خادعتين

متى تساوى الضرر والعقوبة!

أغرب تلاعب بالألفاظ

كالأدوية المسكّنة

هدنة مؤقتة بين الألم والصراخ

العقوبة تنتهي بأجل ولو كان موتا

والضرر معوّق حيّ

       لكن ما علاقة’ هذا بشفيق الكمالي؟

لماذا نسيت’ نظم الشعر،

فلا أدخل في صلب الموضوع إلاّ بمقدمة خائبة؟

في الدّين فقط لا بد من تلجلج

وإلاّ أصبح جدية.في الحب الجديد كذلك

لابد من تلعثم وحمّى وانقطاع نفس

وإلاّ كان قلة حياء

لماذا لا أبدأ بصراخ

كشاعر ملسوع : " واحر قلباه"؟

لماذا لا أيأس

كشاعر بطىء "غير مجْد في ملّتي واعتقادي"

ما علاقة شفيق الكمالي

    بالحلبة وميزان الكيل؟

بالمتنبي أو المعرّي

لم نكن في حلبة أبدا

  ما من أحد يراها في الأقلّ

حقا كان أطول منّي ببوصات عشر

وصدره المرتفع كصدور الرياضيين

  أعرض من صدري بالتأكيد

في الميزان أو داخل الحلبة

لا أهمية للحجم أو الطول أو العرض

هبه كان وزيرا

   وله خط أحمر برئيس الجمهورية

هبه مرشّحا للقيادة القطرية لحزب البعث

الحاكم

هبه يتندر مع وزير الداخلية ويتبذّأ بلا تحرج

هبه رئيس اتحاد الكتاب العرب

يفتح له السائق باب السّيارة ويغلقه دون شكر

لا لن أكون إلاّ ندا له هذا اليوم 

  بالحق، لم نكن في حلبة

ونحن في طريقنا من لندن الى ما نتشستر

ما من أحد يراها في الأقل

من الشوط الأول

صعد قبلي الى القطار ولم يجاملْ

متقابليْن جلسْنا كما

في حلبة قبل الآشتباك

خدّاه متعضّلان بدكنة لحم شائط

يتنفس بصعوبة

  كحيوان مائي على اليابسة

يتلوى

كمنْ يعاني من حصاة في المثانة

(أخرجتْ بعملية جراحية على شكل قلب

ثقبتْها زوجته ولبستها قلادة)

..............................

....................................

.....................................

الصمت ينتفخ مثل زئير محبوس في عضلة مستوفزة

نظر ثانية بكامل وجهه

  إلى كوخ بعيد في الحقل

كوخ منفرد

كأنه نابت بحكم الطبيعة في العراء

قال شفيق الكمالي بصوت شاة تجهض:

"ليتني أنعزل عن العالم في كوخ هنا الى الأبد"

الضربة القاضية صرخة صاخّة

في أعلى درجات الخوف

في أعلى درجات الضعف

تتجمّع..تتجمّع

دمعته في عينيه

وحين نظر إليّ، سقطتْ ونشج

ضربته القاضية تلك

في أعلى درجات الخوف والضعف

أسقطتني أرضا، ولم أفقْ، وتوشّلتْ ساقاي.

لم نكن في حلبة.. مامن أحد يراها في الأقلّ

بعد سنوات أقل من أصابع يد واحدة

قيل مات بالسكتة القلبيّة كمدا.

لم يشيّعْ على أية حال.

وقيل مزّق في السجن،

  كما يمزّق علم دولة معادية

   لندن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*القصيدة معنية كذلك بمفعول الوهم.

                              

عرض مقالات: