لقد فقدنا الكثير من الرموز الوطنية والفنية.. شعراء وادباء وكتاب والكثير الكثير من الشخصيات التي استطاعت أن تحفر لها مكانا في وجدان الشعب.. لكن ما حدث بعد رحيل قامة الشعر والوطن عريان السيد خلف هو شيء خارق بل خارق جدا، إذ لم يجتمع شعب على محبة شخصية، مثل اجتماعهم على محبة رمزه وتاريخه وتفاصيل محبته المتمثلة بشاعر ومناضل كبير كعريان. وما رأيته في مجالس العزاء التي توزعت في كل مدن العراق ـ وهذه سابقة ـ عزاءات كبيرة وباذخة في كل شيء، يعد اضافة حقيقة وراسخة رسوخ اسمه الكبير، أجل حينما تحزن مدن العراق كله وتقيم المأتم وتقرأ فيها الرثاءات، فهذا سبق يحسب للشاعر ولشعبه ، مجالس يجتمع فيها المختلفون لاشيء جمعهم سوى محبة شاعر يمثل الوطن كله ومن ثم ترجمت هذه المحبة على هيئة مسلات من حزن والكثير من احاسيس الفقدان.
أتذكر الجلسة التي اقامتها رابطة مبدعي مدينة الثورة ـ على قاعة منتدى ابو سرحان ـ احتفاء بمنجز الشاعر موسى الخافور.. كان عريان السيد خلف يجلس في الصف الاول .. وكنت انا ادير الجلسة ، حينما طلبت منه أن يتحدث، سألني: عمن اتحدث؟ قلت: لك الخيار ياابا خلدون.. ان تتحدث عن الشاعر او عن المدينة! صعد الى المنصة، بدأ بتحية لابناء مدينته، ذكر الكثير من الاسماء.. أسماء لم نعرفها، لكنه حدثنا عنها بما يشبه التغريد، ذكر اسماءهم واعمالهم وشيء مما يميز كلا منهم، قال هؤلاء عشت معهم اجمل ايامي وهم جيراني وأهلي في المدينة.... ثم تحدث عن شارع الجوادر والداخل، كأنه كان يرسم صورة لفتى كان يخترق هذه الاماكن وهو يحمل روحه على كفيه مناضلا ملتزما ضد الدكتاتورية موضوعا تحت رقابة المخبرين الذين كانوا يرافقونه اينما يذهب ولانه لماح وذكي يقرأ الوجوه بفراسة، كان يعرفهم جيدا وبعد أن تتكرر مرافقتهم له ذهابا وايابا في باصات المصلحة، كان نكاية بهم يدفع لهم اجرة الباص غامزا لهم بأنه يعرف انهم يراقبونه.. هكذا كان يسخر من المخبرين، تواصل الحديث عن فترة كان النضال فيها علامة من علامات الوجود لما فيه من صدق وحرارة، عن الناقد ياسين النصير حينما كان يزورهم في البيت ـ شارع 60 منطقة الجوادر.. حيث تعقد الاجتماعات في الغرف ومباركة الامهات والاخوات والزوجات.. عن الشعر والمطاردات.. عن التصدي لزمر الخراب.. عن الحب وتفاصيل العمر الطويل . يومها ساد صمت هائل في القاعة المكتظة بمحبي الشاعر، الكل كان ينصت الى الجبل والركن الكبير من اركان الوطن وهو يسرد عليهم حكاياته.
كم كنت عميقا وانت تمر على محطات العمر محطة محطة...
كم أنت كبير ايها الجبل ...
كم أنت كبير ياتل الورد ...
كم هي عميقة المسافة التي زرعت فيها محبتك في نفوس الجميع
واثق أنك لم ترحل .. لا يمكن أن تكون قد رحلت .. أنت وروحك التي تنثر الورد خالد خلود الشعر .. خلود الجمال .. خلود المحبة.

عرض مقالات: