الحقيقة التي تتأكد الآن، هي انك لا يمكن ان تزور شارع المتنبي في صباحات الجمع المعتادة ما لم تمر بساحة الباب المعظم، طالما ان القوى الامنية تمسك شارع الجمهورية بطوله وعرضه، حتى ساحة التحرير في الباب الشرقي. ولو سألت عن السبب لقيل لك انها مجرد احترازات موجبة حول أية تظاهرات متوقعة تحت نصب الحرية. ولهذا بات من الصعب على سكنة احياء البتاويين والكرادة وبغداد الجديدة وحتى سكنة قاطع الكرخ ان يتوافدوا الى هذا الشارع الا بالإطلالة الملزمة على الباب المعظم. نبهني الى هذه الحقيقة الصديق الشاعر المغترب صادق الصائغ قبل عامين، وهو يشكو من مرارة الزمن وبعد الطريق حينما يستقل التاكسي من احد فنادق شارع السعدون عبورا الى الكرخ بواسطة جسر الجادرية البعيد وصولا الى هذا الباب العتيد، وهو ما اكده لي ايضاً الكثير من اصدقائي الذين يسكنون غربي بغداد وجنوبها، باستثناء سكنة شرقي بغداد وشمالها كمدن الثورة والشعب والقناة والحسينية الذين يفدون الى بابنا المعظم العتيد بانسيابية مرنة، حتى وان كان ثمة كآبة شديدة تغلف الوجه والروح، او سماوات ثقيلة رمادية تكلكل على البدن والمزاج، فلا مناص من زيارة شارع المتنبي حتى وان طال المسير.

مقترب اول

وكما يفعل المطر في قصائد السياب وجدتني قبل اسبوع اسير تحت سماء ملبدة بالغيوم. نثيث مشعث، مشوه، ملتف بالرياح، مثل رسوم شاذة بالقلم الرصاص على صفحة السماء. اغفو لبرهة، سائرا على قدمين نديتين وحذائين رطبين شبه موحلين، واتحدث الى نفسي مدمدماً متسائلاً، هل هو المخطط الاسبوعي ذاته الذي ما زلت حريصاً عليه منذ اكثر من اربعين سنة خلت، ام ان ثمة هدف آخر يمكنني من ترجمة الامنيات بالعمل الحق الصبور كي اجدد هذه النفس، برغم اني في اعماقي لست ميكيافيلياً ولا براغماتياً.
الباب المعظم بمجسره ونفقه الجديدين، ليس بالباب ذاته الذي كان يعّظم من قبل الآباء والاجداد. لا أملك افكاراً واضحة الآن، ولكنني اتذكر افكار الصحفي الشهيد عبد الجبار وهبي "ابو سعيد" وسطور روائيّنا المبدع غائب طعمة فرمان في رواية "المخاض" عندما اتفقا بالرؤية والكلمات، وهما يقولان: "عجيب باب المعظم هذا، لو فكر الناس بما فيه لقالوا هذا عالم المتناقضات، فيه السجن المركزي ووزارة الخارجية، مقبرة ومكتبة عامة، مستشفى اطفال ومتحف طبيعي، واشياء اخرى، كلها تتعايش ببرود عجيب، وتتنفس وتزفر في الغبار والوهج، والعرق والدموع، والاحلام والحشرجات والصرخات المخبولة..".

مقترب ثان

والآن، دعونا نتوغل في شارع وزارة الدفاع "قلعة الانكشارية القديمة ومقر الزعيم وبؤرة الانقلابات العسكرية" حيث يرتكن جامع الازبكية الى اليمين حافلا بالتزيين والزخرفة الباذخة، على العكس من جامع المرادية المقابل الزاهد، فأتذكر زهد العم زكي خيري الذي انطلقت صرخة ولادته في بدايات القرن العشرين بالقرب من ناصية زقاق هذا الجامع. كما اتذكر غياب الطوب الاسود الصفيق "مدفع ابو خزامة" الذي كان ينتصف هذا الشارع في مواجهة بوابة الوزارة الشامخة، حينما كان ملاذاً للدعاء والتبرك ضمن عالم زاخر بعادات عجيبة خاصة به، عالم من طين، كتل من تراب، تقطن تحتها ديدان ساكنة. وقد راعني ان يكون تمثال المتنبي "بصنع الفنان محمد غني حكمت" حبيسا وراء اسوار دار الكتب والوثائق.
نحن الآن في "الميدان" الخط القديم لقلب بغداد في زمن مضى، خط الباصات الحمراء ذات الطابقين لمصلحة نقل الركاب. وتلك هي البداية الاولى للاقتراب من قاع العاصمة وهتك اسرارها وخفاياها. ساحة هائلة يفترشها باعة المواد المستعملة والبضائع المختلفة ذات الرنين التاريخي القريب، من الافرشة والبطانيات ومسجلات الصوت والتلفزيونات والثلاجات، وثمة عربات لبيع المأكولات السريعة واخرى لبيع الملابس القديمة، مع بسطات وصوان وطسوت تعرض الكثير من مواد الخردة التي لا تمر بخاطر ولا تطرق على بال.
لقد قذف سوق الهرج القديم باعته وزبائنه ومريديه الى الساحة، وتفرع زقاقه القصير لفترينات الأنتيكة الخاصة بالساعات والمسابح والنحاسيات والصحون الملكية ذات الفخار النادر. فاذا قدر لك ان تمر بمنعطف من منعطفات هذا السوق، ووقع بصرك على بيوتها الخربة، وازقتها الضيقة الملآى بالأوساخ والتراب والطين في كل موسم من مواسم السنة، في الصيف والشتاء وفي الخريف المجدب والربيع المورق الزاهي.. واذا ما وطئت قدماك عتبة بيت من البيوت التي يخر سقفها ان همت عين السماء، او تمايلت جدرانها اذا ما هبت نسمة ريح، او صك سمعك هدير بابها ان انفرجت الى الداخل قليلاً، واذا ما التفت وانت تسير الى احد مقاهي او "چايخانات" بغداد واصوات قرع الدومنة والطاولي وهي تمتزج بأغاني الراديو وقرقرات النراكيل والجليس الذي يحرّم على زميله ان يدفع ثمن الشاي، فيصرخ مستنكراً "لا تاخذ واصل"، واذا ما تناولت وجبة طعام رخيصة عند "ابو الفلافل" او شيش كباب لدى صاحب المشويات، او طرقت سمعك "مزيقة" اصحاب الاعراس والمآتم على السواء.. اذا ما تخيلت قارئي الكريم، كل هذه الاجواء وغيرها من الاجواء الشعبية الاخرى، ذات الجوانب المتشعبة والالوان المتعددة التي تمور بالحركة والحياة، حياة ابناء الشعب المريرة والقاسية حتى بأهوالها، لأدركت حقا تشابه العائلات السعيدة، اما التعيسة فلكل منها تعاستها الخاصة.
ولكنني سعيد هذا اليوم اكثر مما كنت في ستة ايام سابقة، انها جمعة شارع المتنبي المعتادة منذ سنين طوال، فأتحول بنوع من الارتياح الى ممر السراي الطويل، ببناياته الفارغة شبه الطللية، ومنها ما هو محترق الى خزينة بغداد، دائرة البريد والهاتف، الموقف العام، متصرفية بغداد، مبنى القشلة المذهل، وصولا الى المنعطف الثلاثي الاثير: سوق القرطاسية، قيصرية عثمانية من عصر المدن في بلاد الرافدين ثم الزقاق او الفتحة المطلة على نهر دجلة حيث مرسى النحت والتمثال الآخر لشاعرنا المتنبي الطليق على العكس من تمثال المتنبي الاول الحبيس في دار الكتب والوثائق واخيراً ها هو ذا المبتدأ او المنتهى لشارع المتنبي من خلال ركنه العتيد المتمثل بمقهى الشابندر.
في البحث عن روايات قديمة
فجأة، ثمة اشعة من ضوء ضارب الى الزرقة عبر سماء هذا الشارع المزدحم بوميض قزحي عجيب، واذا انه ليس ضوء الشارع، بل قوس قزح.. اي شيء اكثر روعة من ان تكون طريا، طاهرا وسليما وفتيا في ظهيرة شبه ممطرة هذه؟
ولا عجب، ان يلم بي حنين واستذكار عجيبين شبه منفصلين، هل هي النستولوجيا التي نصطلح عليها نحن المثقفين في الحنين الى الماضي، ام انه حنين مولع الى روايات وقصص عالمية قرأتها في ازمان وامكنة مختلفة، وكانت في حوزتي قبل حالات الحروب والحصار المستمرة التي تجبرني وتجبر الكثير من اصدقائي على العودة اليها، كما يفعل المستأجرون الفقراء في هذا الوطن في الانتقال من بيت الى بيت آخر، ويتركون كتبهم ومكتباتهم عرضة للفراغ او الريح او البيع الملزم بأبخس الاثمان؟
لا عجب ايضا ان كانت ظهيرتي في هذه الجمعة، تدعوني الى البحث عن الفريد والمتفرد من روايات حول شتاينبك:"أفول القمر، شارع السردين المعلب، عناقيد الغضب، اللؤلؤة، تورتيلا فلات، البحث عن غله مجهول.."، مع حنين جارف ومستطير في البحث عن رواية "مزيفو النقود" لاندريه جيد، والبحث عن كافكا وسومرست موم وهنري جيمس وأميل زولا وبلزاك وجورج سيمنون واجاثا كريستي وبيرل بيك، خصوصا في روايتيها الاثيرتين "غادة اليابان" و " المتمردة الحسناء". اما من يدلني الآن على رواية "حسناء القوقاز" لتولستوي، فبمستطاعي ان امنحه عرق الذهب المطمور في خرائطي غير المكتشفة حتى الآن، بعد ان شبعت وتجشأت ومللت – ان جاز القول – من شكسبير وديستوفيسكي ونجيب محفوظ ومحمد خضير.

وقفات واستذكارات اخرى

يطيب احتساء الشاي عند مكتبة عدنان بكرم صديقنا المهندس الكتبي محمد سلمان، ويطيب ايضاً بضيافة اصدقائي الادباء الثلاثة: عباس لطيف وهادي الناصر وعبد الكريم الزهيري في مكتبهم الانيق الذي ينهض من عمارة حديثة بنيت على انقاض المكتبة العصرية لصاحبها الراحل قاسم محمد الرجب الذي يعد مع المرحوم حسين الفلفلي من الرواد الاوائل لأصحاب المكتبات في شارع المتنبي، ويطيب اكثر توافد الاصدقاء والمعارف عليهم من كل حدب وصوب. بل يسعدني حضور الصبايا والفتيان في سعيهم الجاد لأبسط الكراريس في تعلم اللغات الاجنبية، خصوصا اللغة الانكليزية التي تعد مفتاحاً معلناً لجميع القارات في العالم، على الرغم مما حدث وما سيحدث في عالمنا المعاصر من كوارث واهوال وفتن، من دون بارقة امل في السعادة المقترحة للشعوب.
واخرج من طقوس الشاي بمرحها وكدرها، بكوميدياتها وتراجيدياتها فأواجه باعة الكتب الذين اتخذوا من المظلات والارصفة المسقفة ملاذاً لاستمرار عملهم، فاستذكر المفارقة الساخرة لهذا الشارع في عز مجده التسعيني المنصرم، زمن الحصار الدولي المقيت، حينما شمر العديد من ادباء العراق لبسط كتبهم على ارصفة الشارع، من دون خيار آخر لفقرهم وخواء جيوبهم، حتى وان كان ما يردهم من دنانير مطبوعة "بنكنوت" تخذلهم، تخدرهم، تسطحهم حد الموت البطيء، جريا على القاعدة اليائسة: ليس في الامكان خير مما كان.
وألتقي اصدقائي الشجعان ممن عرفوا بباعة كتب الاستنساخ في ذلك الزمن العصيب، ومنهم العزيز سعدون هليل الذي توافرت من خلاله على مذكرات كبار الشيوعيين من الاحياء والاموات: "زكي خيري وصالح دگله ورحيم عجينه واحمد باني خيلاني، ثمينة ناجي يوسف، وبهاء الدين نوري وسعاد خيري وباقر ابراهيم" والعزيز الآخر كريم حنش، صاحب القامة الفارعة والنكتة الدائمة الذي كان يمد اصدقاءنا الثقاة بأحدث المصادر المعرفية والفكرية وبأبخس اوراق البنكنوت الشائعة الميتة وقتذاك. ومر بخاطري الفراغ المحزن للصديق كاظم الشويلي "ابو فراس" الذي اتاح لي وللعديد من اصدقائي قراءة سفر حنا بطاطو "العراق" بأجزائه الثلاثة، ولثلاثة اسابيع متواترة بثمن 500 دينار من باب الاستعارة لكل جزء.
واخيراً، وحتى نكمل مشوارنا في شارع المتنبي لا بد من استذكار صديقنا الراحل حامد الشطري المكنى بـ "ابو ربيع" الذي كان نمطاً فريداً لا يجارى ولا يتكرر في سيرة ومسيرة الشارع، بعد ان خدم الادب والاعلام والمعرفة والفكر جميعاً، بما لم يخدمها المتخصصون.
من ابتكارات حامد الشطري وارقى شواغله، انه صنع المزاد الاسبوعي العلني للكتب من دون ان يسبقه احد في عموم العراق. وكان صوته الملعلع الشجي يجبر اكثر الناس المرتادين للشارع على ان يتحلقوا حول هذا المزاد المكتنز البسيط، خصوصا في ترديدته الآسرة لمطلع قصيدة الشاعر مصطفى جمال الدين: "بغداد مهما اشتبكت عليك الاعصرُ .. إلا ذوت ووريق عمرك اخضرُ". وكان احيانا يربك حتى قادة المؤسسة البعثية الثقافية في ذلك الزمن، حينما يصدح صوته بقصيدة ابن العتري المشكوك بمرجعيتها: ماذا اصابك يا بغداد في العين/ ألم تكوني يوما في قرة العين؟!".
المصيبة ان صديقنا الشطري الراحل كان يردد في أخريات ايامه هذا المنولوج الفطري الأسيان: "كلمن يقول الشطري زين/ قل له انت كذاب/ الشطري صار اسبوعين ما بايع كتاب".
بإيجاز، بإيجاز شديد تأخرت جولتي الاسبوعية في ذلك اليوم الممطر في شارع المتنبي. وما علي وقتذاك الا العودة الى البيت كي اقرأ ديوان الملا عبود الكرخي للسلوى.