ضمن قوّة خاصة شكلتها الطبقة الألمانيّة الحاكمة لسحق الثورة التي قادها الحزب الشيوعي في ألمانيا عام 1919، لم يتردد ملازم تافه إلا قليلاً قبل أن يطلق النار على رأس روزا لوكسمبورغ (5 مارس 1871 ــ 15 يناير 1919) عند اعتقالها. لقد كان تغييب القائدة والعقل المدبّر للثورة أمراً لا بدّ منه إذا كان لهيمنة الحاكمين أن تستمر. لكنهم لم يعلموا حينها أنهم باغتيالها، عمّدوها أيقونة أبديّة تلهم الفقراء يوماً بعد يوم.
في موازاة القادة والمفكرين الثوريين التاريخيين الذين خرجوا من رحم الفترة العاصفة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وشكلوا معالم التجربة الثوريّة الأهم في تاريخ أوروبا: لينين وتروتسكي في روسيا، وغرامشي في إيطاليا وكونوللي في إيرلندا.
في موازاتهم تقف شامخة جميلة وعملاقة: القائدة والمفكرة الشهيدة روزا لوكسمبورغ زعيمة الحزب الشيوعي الألماني التي أعدمت برصاصة في الرأس مع رفيقها كارل ليبكنخت يوم الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1919 «لأنّ تلك كانت الطريقة الوحيدة لكسر الثورة» كما تحدث قاتلها في ما بعد. لقد أصاب غياب هذه الشخصيّة الاستثنائية الحركة العماليّة الأممية وقتها في مقتل: فألمانيا كانت (ولا تزال) الدولة الأهم في أوروبا، وانتصار الشيوعيين فيها كان ليمثل رافعة ثورية لكل الطبقة العاملة عبر القارة، وبارقة أمل لتحوّل انتصار البلاشفة في روسيا 1917 إلى ثورة اشتراكيّة عالميّة الطابع، تحول دون حصارها من قبل قوى اليمين الغربي بل وربما تمنع ارتكاسها الكارثيّ لاحقاً في التجربة الستالينيّة البغيضة. وكما كانت هزيمة الحراك الثوري الإيطالي الذي قاده غرامشي بوابة ولادة الفاشيّة، كانت هزيمة ثورة 1919 في ألمانيا بداية مسار تحولات رجعيّة توجت بصعود النازيّة، ليكون التالي في سفر الأيّام مجرّد تفاصيل وإن كلفت البشريّة ملايين الضحايا وجبالاً من آلام لا تشفى. لكن غياب لوكسمبورغ أيضاً كان خسارة لا تعوّض على صعيد النظريّة الثوريّة، إذ كانت واحدة من عقول قليلة نادرة في ذلك المنعطف الحاسم من التاريخ الحديث التي امتلكت القدرة على تحليل كلّي للأحداث والاتجاهات والأشياء في نسقها التاريخي والطبقي العام، ومن ثمّ تقديم بدائل ثوريّة عمليّة على الأرض لمواجهتها ودائماً من دون الوقوع في فخ الديماغوجيّة وعبادة النصوص المؤسّسة للماركسيّة أو الأشخاص مهما علت رتبهم. فوق ذلك كلّه، فقدت النساء بغيابها قائدة نموذجاً ساطعاً لمعنى أن تتحرر المرأة من خلال انخراطها في معركة تحرير مجتمعها بمجمله، بدل السقوط في متاهات النسوية الفارغة التي تخدم تأبيد عبوديتها ومجتمعها معها.
ولدت لوكسمبورغ عام 1871 في بولندا التي كانت حينها جزءاً من الإمبراطوريّة الروسيّة، وبنت وعياً ثورياً مبكراً في أجواء القمع التي مارسها النظام القيصري حينها، واختارت من دون تردد أن تعيش حياة خطرة كانت تعرف أنها ستفضي يوماً إلى موت قاس. انتقلت لتجنب التوقيف إلى المنفى في سويسرا التي كانت مقصد عدد كبير من الثوريين الرّوس والبولنديين المطاردين، والتحقت بـ «جامعة زيوريخ» لتلمع سريعاً في الاجتماعات والنقاشات الثريّة والمكثّفة التي كانت تجري في الدوائر الثوريّة الأوروبيّة. لم تكن قد تجاوزت الـ 23 من عمرها عندما تولت تحرير جريدة اشتراكيّة بولنديّة كان يصدرها الثوريون في المنفى. كانت تلك بالتأكيد بدايات واعدة وتجربة استثنائيّة لثوريّة امرأة شابّة في مجتمعات أوروبا القرن التاسع عشر عندما كانت معظم نساء أوروبا مواطنات من الدرجة الثانية ومجرد خلفيّة باهتة للصراعات السياسيّة.
كانت لوكسمبورغ سيّدة جميلة بحق، لكنها كانت أكثر روحاً ثوريّة من فولاذ لا يصدأ. وقد كتب عنها أحد الذين حضروا مؤتمر الاشتراكية الأمميّة عام 1893 بأنها «عندما أرادت الحديث لإبداء رأيها، وقفت فوق كرسيّها كي يراها الجميع، وألقت بكل ثقة كلمة ناريّة كانت تشعّ من عيونها قبل أن تنطقها كلمات، فكسبت تأييد أغلبية الحاضرين لوجهة نظرها الذين سحروا كأنهم خضعوا لمجال مغناطيسي». لقد كانت لوكسمبورغ ثورة تامّة تجسدت في امرأة، وكانت عقلاً مدهشاً مستقلاً لا يمكن إخضاعه بأدوات الذكوريّة أو الأقدميّة الحزبيّة.
لكن هذه الشخصيّة الكاريزميّة تسببت لها في متاعب لاحقاً بعد انتقالها إلى ألمانيا في 1898 والتحاقها بالحزب الديمقراطي الاشتراكي هناك. إذ يبدو أنها كسبت عداوات قيادات عليا مبكراً، لا سيّما بعدما نشرت مقالتها المفصليّة «الإصلاح أو الثورة» التي انتقدت فيها نظريات مفكّر الحزب ادوارد برنشتاين بشأن تحوّل متدرج نحو الاشتراكية. لكن ذلك لم يثنها عن رفض تلك الفكرة مؤتمراً بعد مؤتمر ومقالة بعد مقالة، مناديةً بتحوّل ثوريّ لأن التدّرج يعني فقط تقوية المنظومة الرأسماليّة وتمديد عمرها، والتعويل على مؤسسة الدّولة التي ما هي في الحقيقة إلا أداة تمكين لهيمنة الطبقة الحاكمة. «لقد كانت كما ضيف يزورك في بيتك ثم يبصق على سجادتك». هكذا وصفها أحد قادة الحزب، وهي بالفعل استمرت تبصق على السجادة في معاركها مع القيادات لدفعهم إلى الاستجابة لتلك الموجة الثوريّة التي كانت تغمر الطبقات العاملة في أوروبا بعد موجة الإضرابات الهائلة التي نفذها العمال الروس في 1905، وهي كتبت عن تلك المرحلة واحدة من أهم مساهماتها في نظريّة الثورة.
تجدد الاهتمام بتراث لوكسمبورغ الفكريّ والثوريّ في السنوات الأخيرة كجزء من اتجاه عام لاستدعاء الماركسيّة أداةً نقديّة لأزمة الرأسماليّة المتأخرة الخانقة وما رافق تلك الأزمة من صعود لتيارات «عفويّة» فوضويّة ولا- حزبيّة مناهضة للمؤسسة الحاكمة في المجتمعات الغربيّة. لكن لوكسمبورغ تحديداً بدت أكثر جاذبيّة من غيرها لهذه التيارات مقارنة بالمنظرين الماركسيين الآخرين لأنها كثيراً ما تسوّق في الغرب كنقيض للينين ونقيض فكرة الحزب الثوري الكلاسيكي بمجملها. لكن تلك الصورة أبعد ما تكون عن الحقيقة، إذ أن نقدها المركزيّة المفرطة للحزب البلشفي في الثورة الروسيّة، وقلقها من تحوّل ديكتاتوريّة الحزب إلى ديكتاتوريّة فرديّة، كان نوعاً من نقاش داخل البيت الواحد حول التكتيك الثوري المرحليّ من دون أن يعني ذلك مطلقاً أنها لم تكن حاسمة في تأييدها للثورة. ولعل أفكارها حول استحالة نجاح الثورات الشعبيّة من دون كسب تأييد كتلة وازنة من منسوبي القوى الأمنيّة التي تطلقها السلطات في وجه العمّال الفقراء، تبدو شديدة الراهنيّة اليوم في حراك السترات الصفر في فرنسا وبلجيكا التي تقمعها السلطات في البلدين بلا هوادة من خلال مستخدمين من الطبقات المسحوقة ذاتها، كما فهمها العميق للخسارات المتكررة للثورات بوصفها لبنات لا بدّ منها لبناء الوعي التاريخي والعمليّ قبل الانتصار.
ألهمت ثورة 1917 في روسيا عمّال ألمانيا ولوكسمبورغ للثورة بعد عام. لكن الطبقة الحاكمة في ألمانيا كانت أذكى من مثيلتها الروسيّة وتعلمت من تجربة الأخيرة، فأجهضت الثورة الاشتراكيّة باكراً من خلال دفع القيصر الألماني للتنازل عن العرش، وإعلان قيام جمهورية استدعي فريدريش إيبرت زعيم الحزب الديمقراطيّ الاشتراكي لتولي منصب المستشاريّة فيها. مهمة إيبرت كانت واضحة: أن يعيد العمال الثائرين إلى مصانعهم، ويتركوا له مهمة النضال من أجل إصلاح ألمانيا المنهكة من دون المساس بالأسس البنيوية للنظام، لتنتهي الثورة بما يشبه هزيمة تامّة للطبقة العاملة ولتيار لوكسمبورغ تحديداً، الذي كان أطلق – متأخراً - حزباً شيوعياً مستقلاً عن الديمقراطيين الاشتراكيين. لكن شعبيّة الزعماء الاشتراكيين للثورة الذين أغرتهم مناصب السلطة وفرص ممارسة النضال «الآمن» في البرلمانات تسبّبت بالفعل في وضع نهاية عاجلة للأمور، ليستعاد «النظام» مجدداً في برلين مع تغيير شكلي في الوجه العلنيّ للنظام.
كان الحزب الشيوعيّ الذي أطلقته لوكسمبورغ وثلّة من رفاقها ما زال غضاً ولم يمتلك الوقت بعد لبناء قاعدة تأييد واسعة خارج برلين والمدن الكبرى. ولذلك كانت نتيجة الثورة التي أشعلها الحزب من برلين (سميت بثورة سبارتاكوس) بعد عام من فشل ثورة 1918 مأساوية بالفعل. إذ عاداها الديمقراطيّون الاشتراكيون، وحوصر الثائرون في مبان عدة قبل أن يسحقوا في هجوم منسَّق بكفاءة شنته قوّة خاصة شكلت لقمع الثورة. اعتقلت لوكسمبورغ ورفيقها ليبكنخت بعد فترة قصيرة من قبل فصيل قاده الملازم وولديرمار بابست الذي كتب لاحقاً أنّه حضر بنفسه أحد مؤتمرات الحزب الشيوعي ووجد أن الثنائي لوكسمبورغ - ليبكنخت هما العقل المدبّر والقوّة الدافعة للحزب. ولذا رغم تردّده قليلاً - على ما ادّعى - أمر بإعدامهما بسرعة خارج القانون كطريقة وحيدة أكيدة للقضاء على الثورة. وهكذا أطلقت النار بدون تأخير على رأس الزعيمة الجميلة الذكيّة وألقيت جثتها في قناة مائيّة في منطقة تيرغارتن كي لا يصبح قبرها مصدر إلهام للأجيال.
بابست بالطبع كان مجرّد أداة. لقد عرفت الطبقة الحاكمة الألمانيّة أن بقاء لوكسمبورغ على رأس الحركة الشيوعيّة كان يعني نهاية أكيدة للهيمنة إن لم يكن بالأمس ففي الغد، ولذا كان أساسياً تصفيتها جسدياً. وهو بالفعل ما قرأه أحد المعادين الروس للثورة البلشفيّة لاحقاً عندما أعرب عن خيبة أمله من «انعدام كفاءة السلطة القيصريّة البائدة وأجهزتها الأمنيّة التي كانت تعرف لينين وتروتسكي جيداً ولم تبادر لتصفيتهما، كما فعل الألمان عندما مسحوا ذكرى لوكسمبورغ وليبكنخت من الوجود».
لكن لوكسمبورغ لا يمكن محوها بسهولة من ضمير العالم، وإن حاول الغرب إفراغ ذكراها من المعنى. ان آلاف المناضلين في كل جبهة يقرأون اليوم لوكسمبورغ ويستلهمون أفكارها، وهي ما زالت في طروحاتها النظريّة ذات صلة بأوضاع الطبقة العاملة اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى، وستبقى روحها حاضرة معنا في المواجهة المستمرة مع الهيمنة مهما «استقر النظام في برلين» مؤقتاً. كان ذلك بالمناسبة عنوان مقالتها الأخيرة قبل موتها بيوم واحد، وقد اختتمت تلك المقالة بقولها على لسان الثورة المغدورة: «أنا كنت، وأكون وسأكون». الثورة روزا لوكسمبورغ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- عن جريدة الاخبار اللبنانية 16 كانون الثاني 2019