"  درجة تحرر المرأة هي مقياس تحرر المجتمع " 

   - شارل فورير  /  كارل ماركس -

صادف أحتفال العالم  في الثامن من مارس / آذار الجاري بيوم المرأة العالمي مع مرور مائة عام على اغتيال شخصية نسوية عالمية ، ألا هي المفكرة و القائدة السياسية الألمانية الفذة روزا لوكسمبورغ والتي اُستشهدت في منتصف يناير / كانون الثاني من عام 1919   ، وكم جدير بالحركة النسائية العالمية التي أحيت قبل أيام يوم المرأة العالمي لو أنها أستذكرت هذه المناضلة العظيمة في منتدياتها واحتفالاتها التي جرت هذا العام ، من كلمات مأثورة لها ومقالات ودراسات وشعارات إلخ  ، سيما وأن ذكرى ميلادها يصادف أيضاً يوم  الخامس من الشهر الجاري  ، وذلك لما في هذا الاستذكار من معان ٍ ليس في الوفاء لذكرى هذه الشهيدة ، بل وفي استلهام الدروس والعِبر المفيدة من سيرة نضالها  الوضاءة العطرة لما لعبته من أدواركفاحية تاريخية بالغة  الأهمية ليس من أجل نيل حقوق المرأة بمفهومها الشامل المتعدد المناحي ،سياسياً واقتصادياً  واجتماعياً ،  بل وتحقيق المساواة الكاملة والعدالة الاجتماعية على هذه الأصعدة المختلفة نفسها لشعبها وشعوب العالم ، وعلى الأخص فيما يتعلق بإنصاف الطبقة العاملة العالمية وانهاء استغلالها وسائر الطبقات الفقيرة والمُعدمة ، ناهيك عن أنها من أوائل من طالبن بحق المرأة في التصويت وحقها في تشكيل منظماتها الخاصة  ٠ 

وُلدت وردتنا الحمراء المفكرة والقائدة السياسية الألمانية روزا لوكسمبورغ في بولندا في مثل هذا الشهر كما أسلفنا عام 1871 ، ومن أهم محطات سيرتها النضالية التحاقها بمنظمة " البروليتاريا " البولندية  وهي مازالت في سن المراهقة ، وحصلت على الدكتوراه من جامعة زيورخ عن إطروحتها " " تطور بولندا الصناعي " ، وكان هذافي عصر يىُندر فيه التحاق المرأة بالجامعة ، وشاركت في تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي عام 1893 ، كما عاصرت السنوات الأخيرة من حياة فريدريك انجلز  ، رفيق درب كارل ماركس في تأسيس الفكر  الاشتراكي العلمي ، وكانت من أبرز المجادلين المشاكسين لنخبة من كبار القادة والمنظرين اليساريين الرجال  في مؤتمر الاممية الثانية المنعقد في زيورخ عام 1893 والذي شارك فيه أيضاً أنجلز نفسه وحيث التقت به في المؤتمر ذاته كما التقت بالمفكر والمُنظّر الماركسي الجيورجي الشهير بليخانوف . ولم تكن مجادلاتها عبثية بدافع حُب الظهور الفارغ أو الزعامة الخاوية بل مبنية على خلفية ثقافية سياسية واقتصادية معمقة وفكر سياسي متقد وواعد بالمزيد من العطاء النظري وهي لم تزل في مقتبل العمر ٠      

شاركت لوكسمبورغ مع رفيق دربها النضالي الألماني كارل ليبنخت في تأسيس عصبة " الاممية " عام 1815 التي انبثقت عنها بعدئذ في السنة التالية " عصبة سبارتاكوس "  ، كما أسست مع ليبنخت نفسه صحيفة " الراية الحمراء " ، وكلاهما كانا في صدارة مؤسسي الحزب الشيوعي الألماني  ،  واُستشهدا معاً في يوم واحد في 15 يناير / كانون الثاني من عام 1919 على إثر اعتقالهما من قِبل ضباط يمينيين  حيث جرى تعذيبهما المفضي للموت ٠ وكانت روزا من أبرز المشاركين في ثورة 1905 الروسية ، وقيادتها لانتفاضة سبارتاكوس عام 1919 ٠

 ويمكن القول بأنه طوال أكثر من قرن ونصف منذ انبثاق الفكر الاشتراكي العلمي  على يد مُنظّره الأول كارل ماركس في أواسط القرن التاسع عشر  لم تبرز في الأحزاب والحركات العالمية اليسارية المناضلة حتى عصرنا  إمرأة مناضلة قيادية ومنظّرة فذة أتبز رفاقها الرجال في الفكر والتنظير كما فعلت روزا لوكسمبورغ التي لُقبت ب " الوردة الحمراء " ، فيما أطلق عليها قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية الروسية  لينين " نسر الثورة " ، إذ كانت بكل ما في الكلمة من معنى نسيجا وحدها  في التفرد النضالي على الصعيدين النظري - الفكري والجماهيري معاً  ، وقدمت إسهامات نظرية مهمة  في اثراء الفكر الاشتراكي الماركسي ، ولاسيما على الصعيد النظري الإقتصادي ، ومن بين إنجازاتها المهمة في هذا الصدد  صياغة مسودة برنامج الحزب الشيوعي الألماني التي أقرها الحزب بعد إدخال تعديلات طفيفة ٠  بيد أن هذه الإسهامات جرى تهميشها والتعتيم عليها ، فليس سراً  اختلافها مع البلاشفة الروس حول رغبتها في تسمية الحزب في ألمانيا ب " الحزب الاشتراكي " وليس " الحزب الشيوعي "، وهذه ليست إلا واحدة فقط من المسائل الخلافية ؛ فمع أنها تضامنت مع ثورة اكتوبر الاشتراكية الروسية ، لم تتردد عن نقد المركزية المتشددة في الحزب اللينيني الحاكم في الاتحاد السوفييتي  ؛ علماً بأنها  كانت شديدة الإعجاب والتقدير للينين لكنها عارضت مركزيته المفرطة ، وطالبت بمراجعة كاملة لمفهوم " التنظيم " ، وأنتقدت سعيه إلى مكافحة الانتهازية من خلال تشديد المركزية التنظيمية لما في ذلك من مخاطر في تقييد المبادرات العفوية والتفكير الديمقراطي الحر . ورأت أن الخطأ الوارد في أفكار لينين وتروتسكي على السواءكونهما رهنا الفكر الاشتراكي وتطبيقه بين خيارين متعارضين : إما الدكتاتورية وإما الديمقراطية ، مفضلين الأولى على الثانية ، بينما رأت من جانبها أهمية  بناء الديمقراطية الإشتراكية الحقة المعرية لزيف الديمقراطية البرجوازية وليس من خلال اجتثاث  الديمقراطية برمتها ( أنظر في هذا الشأن مقالها : المغزى الجوهري للثورة الروسية ، مجلة بدايات العدد ١٨- ١٩ / ٢٠١٧ - ٢٠١٨ ) ٠

وكانت لوكسمبورغ ترى أنه بدون انتخابات عامة ، وصحافة حرة ، وحرية التجمع ، وصراع حر للأفكار ، تصبح الحياة في أي مؤسسة زائفة بل ميتة . ورغم اختلافها في وجهات النظر مع لينين في تلك المسائل من شروط بناء الدولة الاشتراكية وضمان استمراريتها وتطورها إلا أن صدر هذا الأخير كان أرحب من رفاقه في الحزب الشيوعي السوفييتي ومن رفاقها أيضاً في الحزب الشيوعي في تحمل آرائها ، حتى أنها كتب قائلاً : " لقد أخطأت روزا .. لكن على الرغم من كل أخطائها فإنها كانت وستظل بالنسبة لنا نسراً محلقاً . ولن يحفظ الشيوعيون في كل أنحاء العالم ذكراها باعتزاز فحسب ، بل أن سيرتها ومؤلفاتها الكاملة … ستكون أيضاً دليلاً لتدريب أجيال من الشيوعيين في كل أنحاء " ٠ ومن المفارقات الساخرة أن تنويه لينين بمكانتها هذا  الأشبه بالوصية تم العمل على النقيض منه تماماً منذ وفاته ومجيء ستالين مكانه في سدة الحكم ، حيث جرى طمس كل تراثها السياسي والتنظيري  بل وتشويهه والاساءة إليه عند  الإشارات الإضطرارية إلي مجمله أو لبعض أعمالها وأفكارها  ٠

على أن  الأحداث التاريخية التي جرت أواخر القرن المنصرم والمآل المأساوي الذي آل إليه الحزب الشيوعي السوفييتي وانهيار تجربة بناء اشتراكي قارب من ثلاثة أرباع القرن برهنت على صحة الكثير من إطروحاتها ومما كانت تحذّر  منه ، فقد رحلت -على حد تعبير الباحث العراقي رضا طاهر - دون أن ترى كيف تحولت الثورة  الروسية إلى مجتمع استبدادي ،  ولم تعش لترى الثورات المضادة للامبريالية في افريقيا وآسيا وامريكا اللتينية ، وماتت عن عمر لم يتجاوز الثمانية والاربعين قبل أن تطلع وتدرس ما نُشر في أعقاب رحيلها من كتابات جديدة لكارل ماركس  كُشف النقاب عنها في أعقاب رحيلها الفاجع حيث مكنّت لاحقاً  أجيال من الباحثين من الفهم الأعمق لأفق وبصيرة تفكيره . 

ورردتنا الحمراء " روزا  " برز نبوغها الفكري  المقترن بنشاطها السياسي بين اواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين كواحدة من قادة الجناح اليساري في الاممية الثانية ، وهي من مؤسسي الحركة الاشتراكية في بولندا التي تفتحت  / وُلدت فيها في مثل هذا الشهر  الربيعي ( الخامس من آذار / مارس من عام 1871 )  وحيث خاضت في هذه الحركة سجالات فكرية عنيفة  ، كما عُرفت  بانتقاداتها الحادة ضد الاتجاهات الإصلاحية داخل الحركة العمالية الألمانية والعالمية ، ووقفت ضد الاتجاه الوسطي في الاشتراكية الديمقراطية الذي كان على رأسه كاوتسكي . 

وفي مجتمع ذكوري لما يتشافَ من بقايا رواسب ذكورية عميقة  الجذور تاريخياً والعالقة بذهنية حتى قادة اليسار العالمي في عصرها - بل وفي عصرنا أيضاً -  لم يكن غريباً أن تُهمّش اسهاماتها السياسية الفكرية والاقتصادية وأن تُواجه  بالتشكيك والتشويه ، وعلى الأخص كما ذكرنا خلال عهد ستالين المعروف بقبضته الحديدية في الحكم  ؛ وفقط بعد موته جرى رد الاعتبار تدريجياً لأرثها الفكري في بعض أدبيات الحزب الشيوعي السوفييتي ، بينما سبقه في هذا الاهتمام بشكل موسّع الاحزاب الاروبية الغربية التي عُرفت ب " الاوروشيوعية " والتي وظفت تنظيراتها  في نقد بعض سياسات الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم  ، وخاصة خلال المرحلة البريجنيفية التي اُطلق عليها تأدباً في عهد جورباتشوف آخر  أمين عام للحزب قبل انهيار الاتحاد السوفييتي " مرحلة الجمود " .  أما الاحزاب الشيوعية العالمية التي تسترشد بنهج هذا الحزب الأخير ولم تحد عنه قيد أنملة ، ومنها للأسف أحزابنا الشيوعية العربية ، فهي الاخرى لم تبدأ إعادة الاعتبار لميراث هذه المفكرة الكبيرة لوكسمبورغ الفكري إلا على نطاق محدود في السنوات الاخيرة لما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي ، ثم بصورة أوسع في أعقاب انهياره ، وذلك في سياق المراجعات الفكرية التي تقوم بها .

ويُعد الباحث الماركسي العراقي د٠ صالح الياسري من أبرز  الباحثين العرب الذين بذلوا جهوداً  دراسية قيٌمة لتسليط الضوء على ذلك الميراث المغمور  ، وعلى الأخص ما يتعلق بالشق التنظيري الإقتصادي منه ، وضمّنها على وجه الخصوص في كتابه الموسوم " روزا لوكسمبورغ وإشكاليات التحليل الإقتصادي للرأسمالية " حيث تناول فيه  كتابها الفائق الأهمية " تراكم رأس المال " . أما على صعيد الإعلام العربي الاليكتروني التقدمي فلعل موقع " الحوار المتمدن " هو من أكثر هذه المواقع اهتماما بنشر دراسات ومقالات تحليلية قيّمة حولها ، وكذلك صحافة الحزب الشيوعي العراقي  كطريق الشعب والثقافة الجديدة وموقع الحزب الاليكتروني .    

لقد قدمت روزا لوكسمبورغ إسهامات نظرية سياسية وإقتصادية في منتهى الأهمية ،  رغم أنها لم تعش على إثر جريمة اغتيالها سوى 48 عاماً ، وهو عمر صغير نسبياً ويقارب من سن لينين ( 53 عاماً ) ، والذي ظل - دون التقليل من تحليلاته النظرية المهمة - ارثه الفكري والتنظيري على مدى ثلاثة أرباع القرن هو السائد بلا منازع  وشبه مُقدّس وفوق النقد لدى الغالبية العظمى من أحزاب وحركات اليسار العالمي ، بل تم ربط فكر  لينين بفكر  ماركس ربطاً اعتباطياً  ميكانيكياً   تحت مسمى " الماركسية - اللينينية " ٠ ومع أن ماركس ما كان ليقبل أن ينعت أي مثقف يساري بإسمه،  فإن حتى من أصروا على  هذه التسمية أو صكوا هذا المصطلح المستحدث لم يقرنوا على الأقل فكر ماركس بفكر توأمه في الفكر ورفيق دربه إنجلز  ليقولوا مثلاً " الماركسية - الإنجلزية  " ، مع ما ينطوي عليه مصطلح كهذا من تحفظات علمية هو الآخر ي .

أكثر من ذلك فكم من عشرات الألوف من رسائل الدكتوراه في العلوم الإنسانية المختلفة في جامعات الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية  " الاشتراكية " المتحالفة معه  زُخرفت صفحاتها بحواش من مصادر كتابات ومؤلفات لينين ، وخُتمت قائمة مراجعها بعدد كبير من كُتبه ،  فضلاً عن اقتباست موسعة في متن الرسائل من أقواله ، و في الغالب الأعم يفعل طلبة الدراسات العليا  ذلك إبتغاءً  لكسب ثقة  الاساتذة السوفييت ورضا المشرفين على تلك الرسائل لتمريرها وإجازتها  ، في حين لم يجرؤ أحد من أولئك الطلبة أن يستشهد بكتابات روزا لوكسمبورغ  مثلاً ، بكتابات كل من أختلف مع معاصري لينين بهذا القدر أو ذاك ؛ هذا لو توافرت كتاباتهم  أصلا باللغة الروسية  أو كان مسموحاً بتداولها وخصوصاً خلال المرحلة الستالينية .

واستطراداً يمكننا القول أن التراث الفكري السياسي والإقتصادي لروزا لوكسمبورغ ما زال الكثير منه مُغيّباً  ولم يُسلٌط الضوء إلا على النزر اليسير منه ، وبالتالي فهو جدير باجراء المزيد من الدراسات حوله لإستلهام ماهو مفيد منه لتجديد الفكر الاشتراكي العالمي ، وفي المراجعات النقدية والإصلاحية التي تقوم بها الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية في عالمنا العربي  وذلك من أجل تقوية نفوذها الجماهيري واستعادة نهوضها  ، لاسيما بالنظر لتغول وتوحش الرأسمالية العالمية والمؤثرات السلبية للعولمة ، حيث ما فتئت منطقتنا العربية الأكثر تأثراً سياسياً بذلك التوحش والتغول لاسيما في الجانب العسكري منه عبر خلق وتنمية بؤر التوتر الممهدة للحروب الداخلية والاقليمية المدمرة التي تجني ثمارها الرأسمالية العالمية ذاتها وبخاصة من خلال ترويج أسلحتها الفتّاكة  ، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل لإعاقة تطور مجتمعاتنا العربية وعرقلة تعميق وعيها الديمقراطي وإشعاله بالمعارك الدينية والمذهبية والحيلولة دون تقوية حركاتها الديمقراطية الكفيلة وحدها بإسقاط الانظمة الدكتاتورية العربية التي تتحالف معها وتراهن عليها تلك  الدول الرأسمالية لكي لا تفقد مصالحها وامتيازاتها الأنانية المديدة تاريخياً في منطقتنا العربية بزوالها ٠ 

 

 
عرض مقالات: