الى السيدة حنة - إليزابيث شتومر

كشكر متواضع على أصيص زهور الخزامى الرائع

روزا لوكسمبورغ

عندما كنت سجينة احترازية في معتقل شارع بارنيم Barnimstraße ، ونزلت للمرة الاولى الفسحة في ما يسمى بفناء المستشفى، وجدت هناك سيدة ممتلئة ترتدي فستانا أنيقا- وفي أصابعها وعلى صدرها محل مجوهرات صغير يبرق مع كل حركة منها. كانت تجوب الفناء في حركة دائرية لا تعرف الهدوء، بعصبية وفم ممتعض وجبين مقطب. التصقت نظراتها بالأرض وهي تسير بخطوات تقرقع بانتظام بحذاء التبختر الشديد الحداثة الذي تنتعله، لتحتج على ظلم العالم المرير وعلى السلطة العسكرية. وعندما رأت شخصي غير اللافت تأملتني لبعض الوقت بعينين شبه مغمضتين وقصيرتي النظر، قدمت نفسها لي وشكت همها بصوت عال على الفور، الحالة النمطية المعروفة: صديقات غيورات -ثأر قديم- وشاية من مجهول بسبب "فكر معادٍ للألمان”- اعتقال- حبس احترازي...” وها أنا أقبع في هذا الجحر اللعين، ومن المفترض أن أبقى هنا في أحلى أوقات الصيف، أنا التي لا تستطيع أن تعيش بدون الطبيعة. ثم حكت لي عن الرحلة الباهظة الثمن التي تقوم بها كل عام لتستمتع بروعة المغارب في جبال الالب التيرولية هذه المغارب كانت تؤثر فيها كثيرا حد البكاء..

كان واضحا أن السيدة كانت تعيش بقناعة راسخة بأن الطبيعة تبدأ في جبال الألب التيرولية، وتحديدا مع المغارب المؤثرة. لو قلنا لها أنها كانت هنا حيث تقف وتسير في شارع بارنيم رقم 10، في وسط الطبيعة ومن الصباح وحتى المساء، لفكرت أننا نستهزئ بها. صمت وابتسمت بأدب وانصرفت.

والآن أود أن أدعوك يا سيدتي الجميلة إلى جولة صغيرة بصحبتي في مملكة الطبيعة الصغيرة هذه. لا أعرف سماتك اللطيفة، لكن ماذا يقدم ذلك أو يؤخر؟ إنني أعرف ما يكفي لادرك الاحب منها. هل تسمحين لي أن أغني، بانحناءة مهذبة، مثل لوبوريلو في أوبرا »دون خوان« لموتسارت عندما قام بعرض »السجل« الشهير أمام دونا إلفيرا: »:

أيتها السيدة النبيلة، لو تسمحين لنا

 فلنواصل السير لو تسمحين

 فلنواصل السير ...«

كان الجدار الخلفي الرمادي المتآكل المكتوب عليه بحروف كبيرة شبه متشابكة "معمل تيمنر للخل" هو أول ما تقع عليه عيناي على مدار 365 يوما عند الاستيقاظ. وكانت المدخنة المتداعية لهذا المبنى تنفث دخانها بلا كلل وتحمل الهواء في السجن دائما برائحة حلوة – حامضة خفيفة، تتسبب احياناً في بعض أيام الكابية- في حكة مسموعة في الحلق. على يمين ويسار المعمل ثمة صف ملون من بيوت الايجار القديمة جدا تزين نوافذها الصغيرة أصص من زهور الغيرانيا وأقفاص الكناريا وملابس الرضع. ويسمع منها صراخ الاطفال والشجار واصوات النقر على الجيتار أو صوت غراموفون ذو أزيز.

هل تعرفين يا سيدتي قصيدة »فانتازيوس« لارنو هولتس، هذه هي بدايتها:

  سطحه كاد أن يلامس السماء،

من الفناء يدك المصنع الارض بقدميه

لقد كانت ثكنة الايجار المناسبة

 بردهة وموسيقى بيانولا.

في القبو عشش الجرذ،

وفي الدور الارضي كان ثمة كونياك وشراب روم ساخن وبيرة.

وحتى في الطابق الخامس وجد بؤس الضواحي

مرتعا له

لكن فوق الخط المنكسر لهذه الاسطح الواقعة جهة الشرق ثمة تمثيلية صباحية، تتكرر كل يوم منذ خلق العالم: انه الحدث الاجمل والأسمى منذ خلق العالم؛ شروق الشمس.

أواخر الخريف في الخامسة والنصف بكوراً،  لا يزال المبنى ناعساً تبقت ثانية واحدة من الهدوء قبل ان يهدم الضجيج المصلصل والمقرقع والمدوي لـ 500 من الكيانات البشرية في موجة اندفاع غير صبورة سد الهدوء الليلي ويملأ كل زاوية من المبنى الضخم. ثمة ثانية باقية في هذا الهزيع الاخير من الليل المحتضر ترين على قمة جمالون المبنى لمعان ظل ضئيل لطائر وتسمعين لعثماته الحلوة؟ إنه الزرزور الذي ينتظر معي كل صباح بدء التمثيلية الكبيرة.

حسنا إنها تبدأ! هناك، أنظري يا سيدتي كيف تتلون السماء الرمادية الداكنة إلى اللون الوردي فوق معمل تيمنر للخل. فجأة ينطلق من هناك برق وردي في الاعالي، وتتقد معه مجموعة كاملة من السحب الصغيرة وتزداد قوة اشتعالها أكثر وأكثر حتى تصبح متوهجة كالجمر الملتهب. تشتعل السماء الباردة فعلاً وتموج بألسنة اللهب. وفي المنتصف، فوق مدخنة معمل الخل مباشرة يتدفق شعاع الذهب الاول مضيئاً عبر هذا الفيض الأحمر الدموي.

إنه يشبه افتتاحية لفاغنر في البداية تصر آلات الكمان وحدها من أعلى لأقل درجة وتصبح أكثر عجالة وأكثر إلحاحا- ثم يتدخل الصوت القوي الممتلئ للابوا حاملا اللازمة الموسيقية ثم تمتزج أصوات آلات الكونتراباص والفلوت والكلارينت، ثم آلة النفير المدوية واخيرا تصخب الاوركسترا بكاملها في الاعالي نصر وتهليل نشيدا، هكذا تعزف وتبتهج اوركسترا الالوان بلا صوت في السماء فوق الجدران الرمادية لمعتقل شارع بارنيم. الشمس، تصعد فوق معمل تيمنر للخل، لك العافية ايتها الشمس العجوز، الشابة ابدا، تحية لك مني لو أنك فقط تبقين على محبتك لي ان رأيت سحنتك الذهبية، فما الذي يجعلني اكترث بالقضبان والحبس؟ الست طليقة مثل هذا الطائر على حافة السطح الذي يهلل عرفانا ببزوغك مثلي؟ وحتى لو كانوا  ربما سيقتادونني الى حبل المشنقة اثناء اشتداد وطيس ثورة روسية، يكفيني ان تضيء لي هذه المسيرة العصيبة وسأسير الى سموي الاخير مبتسمة بانشراح، وكأني اسير الى وليمة العرس.

السابعة صباحاً يسمح لي بالنزول الى الفناء حتى العاشرة وحدي تماماً، أتريدين ان تتبعينني ايتها السيدة الجميلة؟؟ هنا بالأسفل سترين مساحة العشب المربعة البسيطة هذه، في وسطها لا توجد سوى شجرة دردار وحيدة ضخمة وعلى الجوانب بعض الشجيرات، هذا كل شيء، لكن يا له من غنى عندما ينظر المرء عن كثب! هنا مباشرة وسط الحشائش البرية، إن  رغبت ان تنحني يا سيدتي! هل ترين هذه الكميات من وريقات البرسيم؟ هل تلاحظين كيف تصخب بلمعة خافتة بألوان  زرقاء  وردية  وصدفية، من اين يأتي ذلك؟ كل وريقة مغطاة بقُطيرة ندى ضئيلة جداً  ينكسر فيها ضوء المصباح المائل ويكسب الوريقات لمعان ألوان قوس قزح.. هل حاولت مرة ان تصنعي باقة من مثل اعواد البرسيم  البسيطة اتت الوريقات الثلاث هذه؟ تبدو جذابة في مزهرية صغيرة او كوب. كلها تبدو متشابهة ومع ذلك عند التدقيق في كل وريقة على حدة، تبدو مختلفة قليلاً، مثلما لا توجد على اي شجرة ايضا في الحقيقة ورقتين متطابقتين تماماً. اكبر واصغر،  افتح واعمق،  وريقات البرسيم بشكلها البيضاوي الأصيل صورة ذات حيوية متنوعة. عندما ارسلت للمرة الاولى باقة كهذه  كتحية صباحية للسيدة المشرفة، سألتني لاحقاً باهتمام من اين حصلت عليها؟ السيدات كلهن هنا لم تكن لديهن ادنى فكرة عما ينمو ويترعرع في فنائهن، وكل مرة عندما اجمع باقة ملفتة للانتباه بأبسط الوسائل وبعض الفن، كن يسألن بدهشة، من اين؟ ومنذ ذلك الحين اصبحت باقات البرسيم موضة شائعة، وصرت في بعض الصباحات ارى بسعادة هذه السيدة او تلك وهي تنحني في الفناء وتجمع بشغف ملء يديها من الاعواد ذات الوريقات الثلاث..

والآن ارفعي يا سيدتي تنورتك وسيري بحذر فوق العشب المبلل الى تلك الشجيرات هناك، هل تعرفين الوجيلة، اكثر شجيرات الزينة المحببة في شمال المانيا، ذات العناقيد الممتلئة بزهيرات وردية ليس لها رائحة، لكنها تبهج العين وورقها الاخضر ايضا لا يخلو من جمال. تسمق الاوراق العليا الصغيرة، كما ترين ملفوفة في  اكياس صغيرة، هل تسمحين لي ان اثني لك غصناً تعلو قمته مثل هذه الاكياس؟ انظري بحذر من فضلك الى داخلها! في داخلها ينام احدهم مختبئا في العمق: دعسوقة حمراء  بخمس نقيطات سوداء على ظهرها. في داخل كل ورقة  ملفوفة من اوراق الوجيلة  يمكنك ان تكتشفي في هذه الساعة الصباحية في الخريف دعسوقة، لا يزال الجو  مبللا وباردا جدا في البكور وقد تعودت الدعسوقات  الاستسلام لتعسيلة الصباح الحلوة حتى تبزغ الشمس اكثر. 

بهدووء، نعيد  الاغصان  لوضعها بحذر ولنبتعد في سكون على اطراف اصابع اقدامنا كي لا نزعج الكائنات الصغيرة الغارقة في سبات طويل.

والآن الى شجيرة النبق الاخضر هناك! هل ترغبين في كسر الفريع البني الرقيق؟ ستمسكين به بشجاعة ثم ترتدين عن ذلك مفزوعة، تباً، كم هو طري ولزج الملمس، يتقوس الفريع في الهواء منفعلاً من الازعاج غير المتوقع لراحته. اجل يا سيدتي، فلتسمحي لي بهذه المزحة: تلك كانت يرقة، فلتتأملي من فضلك هذا التمويه الذي سيظل برغم داروين والآخرين لغزاً شكلياً، انظري كيف انه يوجد على شجيرة االنبق، كما على كل شجيرة، اغصان مختلفة، الاحدث منها رفيع بلون القرفة وأملس ولامع، اما الأقدم فاسمك بلون اسمر فاتح، والآن الى المعجزة: على كل غصن صغير تجلس يرقة مناسبة في الحجم واللون بالضبط، هنا على هذا الغُصين الغض توجد يرقة رفيعة بلون بني فاتح وعلى الغصن الاقدم توجد اخرى ممتلئة تميل الى اللون الرمادي. اجل تفضلي، على الجانب تجدين ما يسمى بالبرعم الشارد: غصن سميك بلون اخضر يميل للبياض، يفرد نفسه كالعود فوق الاغصان الاخرى، فعلى هذا الغصن تجلس يرقة خضراء  تميل للبياض بنفس الحجم، لا يمكن تفرقتها عن الشجيرة الا عن قرب شديد وبعين تتوقع ذلك.

ما رأيك يا سيدتي؟ لا تملك الحيوانات الصغيرة من امر شكلها ولونها شيئا، الامر متروك "للطبيعة" العظيمة او كما ندعوها صاحبة المعجزات، لكن بالذات في اختيار الفرع المناسب لزيها، فرع يلتصق به كل حيوان صغير دون الحاجة لمرآة، تكمن قدرة ما على التمييز، ومحاولة خداع مقصودة  يكاد القانون الجنائي ان يعاقب عليها وتنزلق الى وتنزلق الى صلاحية شقيقك(1) ليس كافيا ايضا  وضع الجسم كله، الزاوية الحادة على الغصن الذي تلتصق به كل يرقة كـ "غصن جانبي" والوضع الثابت في الهواء، وهي تسعى بكل هذا الدهاء الى خداع اعين الطيور الحادة التي تتربص بها في الأعالي.

لو لمس المرء مثل هذه اليرقة باصابعه فسترتعش في غير صبر وتنزلق على جسمها المدرع الصغير موجات ذات حُمرة تشبه حمرة الغضب، انها (تحاول) الافلات  سريعاً من مصدر الازعااج ثم تتصلب في وضع الفقير البوذي الذي تعتبره الوضع الوحيد  المناسب والكريم، فلنتركها في سلام.

لقد ارتفعت الشمس في الاثناء ولاقت اشعتها شجيرات القطنية هناك عند البوابة الخارجية، تعالي يا سيدتي لنشاهد شجيرة الزينة تلك بوريقاتها التي تشبه الريحان بملمسها الجلدي اللامع والمرتبة على كل فرع بتساوٍ بحيث يمكنها ان تصنع تاج عروس جاهز؟ كم سيكون جميلا مثل هذا التاج الاخضر فوق رأسك. لكن شجيرات القطنية لم تكن في حد ذاتها ما اثار اعجابي: لقد اختارها عنكبوت ضخم مقرا له. هل ترين هنا عموديا بين الغصون الشبكة العملاقة التي حيكت لتوها؟ كم هي منسقة بجمال ومصممة لتكون مباشرة في مواجهة ضوء الشمس لكي يعمى الضوء الذبابة البلهاء المندفعة وتسقط بكل تأكيد في الشرك! كم ترتسم هذه الشبكة المخادعة في الهواء الازرق الذهبي للصباح الخريفي بوضوح رائع ومحسوب بدقة! يلعب نسيم الهواء بخفة مع البناء المزين الذي يتحرك  ويرتعش لكنه لا يتمزق مثل جسر جبلي مرن مصنوع من ألياف الصلب. معجزة لفن الهندسة، هناك في الركن يجلس العنكبوت الممتلئ البطن جاثماً سعيداً بعمله وينتظر بأسنان تصطك ببعضها بعضا افطارا دسماً.

الآن ونحن نقترب من الظهيرة امسك اخيرا بهوميروس و "انسحب" الى زنزانتي. كان هوميروس ينتظر بصبر على المقعد هناك، تعرفين على الاغلب التأثير الرائع لكتاب يكون في متناول اليد ولا يقرأه المرء. كثيرا ما ابحث لنفسي مساء عن كتاب جيد، يُفترض ان يهدهدني حتى النوم. احيانا يمر وقت طويل حتى اجد الكتاب المناسب، ثم اضعه على المائدة الصغيرة بجانب السرير، ولا المسه، مجرد قربه وحده يكفي. وهكذا ترافقني الالياذة كل صباح اثناء نزهتي في الفناء، لكنني لم أصل في هذا الخريف الى ابعد من خطاب الهجاء لتيريسيتيس سيئ الصيت والسمعة، ما السبب في ذلك؟ لقد مات تيريسيتيس منذ زمن بعيد، لكن العنكبوت لا يزال حياً، يشاركني اللحظة القصيرة، التي قدرتها الآلهة لنا سويا للوجود.

تنقضي الاصائل في السجن بسرعة شديدة. الآن في الخريف يطغى من الرابعة عصرا بوضوح لون اقتراب غروب الشمس. وهذه الساعة الاخيرة لضوء الشمس بعينها، يختارها الحمام الذي يعشش في البيت المجاور لمصنع الخل كل يوم لرحلة جماعية مرحة. انظري يا سيدتي كيف يحلق عالياً في دوائر حول البيت ويرفرف باجنحته ويلتقط بباطن الجناح الابيض كالثلج اشعة الشمس على نحو يغشي البصر. الآن يجلس على السطح مثل باقة ضخمة من زهور الماغنوليا الكبيرة – بيضاء وبنية وزرقاء بلون الصلب، ثم يرتفع ثانية وكأن امراً صدر ويقوم بدورات عديدة في الهواء، الجميع في سرب مخلص، لا بد للمرء ان يستغل النهار، وان ينتشي بضوء الشمس اللذيذ حتى الثمالة، تتكرر الدورات وتتكرر ..

في غضون ذلك يصل الضجيج ذو الازيز المكتوم الخافق في داخل السجن الكبير الى ذروته، ويبدو كأنه انقلب على نفسه في آخر النهار. تصبح اصوات صلصلة المفاتيح وقرع الابواب مخدِرة. وفي النهاية يأتي جرس الاشارة المدوي الاخير والمخلص. واحد اثنان ثلاثة. وينقطع الضجيج وكأنه قد قُص بمقص.

دخول صمت المساء يأتي فجائياً ودون مقدمات بحيث تصاب اعصابي بصدمة ويقرصني ألم في الفودين. لكن الآن يسود الهدوء ويتنفس صدري بارتياح. يبدو الفناء الصامت والمبنى الضخم الساكن فجأة مختلفين تماماً، يبدوان متأملين وحالمين ..

هل تريدين مغادرتي يا سيدتي؟ ارجوك، ابق قليلاً! تنظرين متسائلة الى ابتسامتي الماكرة، الى نظرتي لأعلى؟ فثمة ايضاً جزء من العرض الاساسي الذي اخترته لك.. انظري عالياً عالياً، الى السحابات الوردية الخفيفة التي تتجمع في السماء، يعلم الله من اين أتت! كانت السماء صافية وزرقاء والآن تعج ببيارق صغيرة جدا تضيء بألطف لون وردي، تعبر بهدوء وتبدو كالبسمة، انها مختلفة تماماً عن سحب الصباح الحمراء. الوهج الداكن لشروق الشمس به شيء من آلام الولادة، من المأساوية الكئيبة للفكرة، اما هذه السحب المسائية، فتبدو مثل اطفال يلعبون ببراءة، مثل انغام جرس الملاك الصغير في كنيسة قروية ساكنة.

السماء كلها تموج وتبتسم بلون وردي. المسرح جاهز  ويمكن للعرض ان يبدأ، زق -  زق، هل تسمعين النغمات المعدنية من الاعالي، كما برغي فضي دقيق؟ وهل ترين الانشوطات الداكنة في السماء التي تصيب المرء بالدوار؟  انها السنونوات! كآخر ضيفات النهار تقوم الآن في الخريف، كل مساء وتحت السحب الوردية بلعبتها الجوية قبل ان تقول لنا وداعاً وترحل الى مصر (الى افريقيا)، كم تسقط من علٍ في شجاعة وتخترق مرتفعة الفضاء المضيء، زقق – زق لا تزال تتردد في الأعالي، سترحل قريبا لكنها ستعود في العام القادم! زق – زق!

يدعي موريكه ان السنونوات قادرة على الـ "غناء" وهي جالسة على شجرة. هل تعرفين قصيدة "سويعة قبل النهار":

عندما رقدت ناعسا

سويعة قبل  النهار

غنى امام نافذتي على الشجرة

سنونو صغير وسمعته بالكاد

سويعة قبل النهار

اسمع ما اقوله لك

حبيبك اشكوه

وانا اغني

هل يحضن غيرك في دعة وهدوء

سويعة قبل النهار

ويحي! لا تقل لأحد

اصمت لا ارغب في سماع شيء

ارحل عن شجرتي

آه، لطيف ومخلص حبيبي كالحلم

سويعة قبل النهار ..

أليست تلك القصيدة رائعة، بسيطة وأخاذة مثل الاغاني الشعبية. لكنني لم ار سنونوات تجلس على شجرة وتغني، الصوت الوحيد الذي اعرفه من السنونو هو الزقزقة في الهواء عالياً اثناء لعبة المساء. فجأة وكما بدأت اللعبة انتهت. اختفت السنونوات وانمحت السحابات الوردية. غسق وسكون يهبط ببرود على الارض. فوق مصنع تيمنر للخل يعلو وجه القمر الشاحب متألماً وفي الفناء ينسحب القط مولّه بأقدام خافتة بحثاً عن فريسة! يبدو غريباً مثل ساحر، اكاد اخاف منه، فلديه شيء من اسرار الليل.. الآن يمرق ظل داكن بلا صوت امام نافذتي – انه الوطواط -. انتهى اليوم، مر، لن يعود ثانية، كاللؤلؤة، يغوص في محيط الجاذبية.

سيدتي الجميلة، هل تسمحين لي ان امسك بيدك لإرشادك الى البيت؟ حيث ستجدين فيلتك المغطاة بعناقيد الكروم. شكراً جزيلاً على زيارتك اللطيفة للبهو الواسع لمخيلتي وتقبلي بود القليل الذي قدمته لك سجينة بسيطة مسكينة، ولكن حتى مَلِك لا يستطيع ان يكرم وفادة ضيفه بشيء افضل من ان يضع بين يديه الشمس والقمر، والارض في بهاء خضرتها.

لية سعيدة يا سيدتي

10/ 3/ 1917

ر. ل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت الرسالتان التاليتان مرفقتين بهذا النص

"السيد النائب العام المحترم،

يقال ان النساء انهن يردن دائما ان تكون لهن "الكلمة الاخيرة" وكواحدة منهن اريد ايضاً ان ارسل الوريقة المرفقة للسيدة اللطيفة التي اسعدتني مؤخرا بلفتة صغيرة، لكنها ليست بحاجة للرد. اذا لم تتم الموافقة على طلبي، فلن يتطلب الامر سوى تمزيق الوريقة.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

ر. لوكسمبورغ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حصن فرونكه 6/ 3/ 1917

السيدة المحترمة

هلا تفضلت بقبول جزيل شكري على سطورك اللطيفة وعلى إص الزهور الرائع. كوني على ثقة أن لفتتك الطيبة قد غمرتني بسعادة كبيرة. كما ويحدوني شعور بالارتياح الشديد، كون كتيب الحيوانات الذي أرسلته لك قد حاز على إعجابك. وسأسعد دائما بأن أمدك بقصائد عن أحبائنا المشتركين من ذوات الاربع والأجنحة الذين تبرعين في رسمهم- طبعا بقدر ما يسمح لي كنزي المحدود  .

مع خالص تحياتي الطيبة المخلصة

 روزا لوكسمبورغ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت الرسالة الثانية مكتوبة على ورق رسائل فاخر، رُسمت عليه صورة جسر ريالتو في فينسيا.