كل هذا قد يُمهّد الطريق لحكومة بقيادة حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف في عام ٢٠٢٩. قدّمت Clara E. Mattei (كلارا إي. ماتي)، أستاذة الاقتصاد في جامعة تولسا، إجابةً واضحةً ومُقلقةً على سؤال: كيفية ارتباط إجراءات التقشف بصعود قوى اليمين المتطرف. يُظهر كتابها "نظام رأس المال"، الصادر عام ٢٠٢٢، بوضوح "كيف اخترع الاقتصاديون التقشف ومهّدوا الطريق للفاشية.

الرأسمالية تدخل نهايتها

تقدم ماتي دراسةً معمقةً لأصول أيديولوجية التقشف، وتحذيرًا من عواقبها السياسية. وتدحض الخبيرة الاقتصادية الإيطالية خرافةً شكّلت السياسة الاقتصادية لقرنٍ من الزمان، وهي لا بديل، في أوقات الازمات، للتقشف الحكومي. لا يخدم التقشف العقلانية الاقتصادية، بل يهدف إلى حماية علاقات السلطة الرأسمالية. تتبع التخفيضات في الخدمات الاجتماعية: من التعليم وإعانات البطالة إلى البنية التحتية، نمطًا يعود تاريخه إلى إيطاليا في عشرينيات القرن الماضي (سنوات صعود الفاشية الإيطالية- المترجم)، وصولًا إلى اليونان خلال الأزمة المالية عام ٢٠١٠. والعواقب هي الفقر والبطالة للكثيرين، بينما تزداد ثروة الأثرياء.

تعود أطروحة ماتي حول هذا الارتباط إلى أصول أيديولوجية التقشف بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، لم يقتصر الأمر على انزلاق الاقتصاد إلى أزمة، بل كانت الرأسمالية نفسها في حالة تدهور. في بريطانيا العظمى وإيطاليا، تمكن العمال من إدراك حقيقة أن النظام قابل للتغيير. لقد أثبت اقتصاد الحرب الحكومي ذلك: ففي حين كان النظام الرأسمالي قبل الحرب ما يزال يعمل بنمطه المعتاد، دون تدخل الدولة، أظهر تدخل الدولة في الإنتاج مرونة الظروف الاقتصادية.

لم تعد الكارثة الإنسانية والاقتصادية للحرب العالمية، وما نتج عنها من فقر، قدرًا حتميًا، بل عواقبَ النظام الرأسمالي. بدت نهاية الرأسمالية أقرب من أي وقت مضى. بلغت الأجور الحقيقية مستوياتٍ تاريخية في كلا البلدين (إيطاليا وبريطانيا) في عامي 1921/1922، وتزايدت المطالبات بتأميم الصناعات، وأظهرت الطبقة العاملة من خلال الإضرابات قدرتها على قلب موازين السلطة.

التقشف كثورة مضادة

في هذا الجو المتفجر، الذي تعيده ماتي الى الحياة من خلال مصادر صحفية لطيف سياسي واسع، لا سيما صحيفة "لوردن نوفو" الأسبوعية التي أسسها أنطونيو غرامشي وآخرين:  لم يظهر التقشف صدفة. بل تزامن مع أكبر احتجاجات عمالية في تاريخ بريطانيا وإيطاليا، وبسبب هذه الاحتجاجات، واختُرع كأداة سياسية مضادة.

كان رد فعل الطبقات الحاكمة أنيقًا بقدر ما كان ساخرًا: فقد استخدموا التقشف كأداة سياسية. لكن لم يكن السياسيون أو الحكومات وحدهم مسؤولين عن ذلك، بل كان الاقتصاديون هم من ابتكروا التقشف. استنادًا إلى مواد أرشيفية من بنك إيطاليا، وأرشيف دي ستيفاني، وبنك إنكلترا، ومركز أرشيف تشرشل، تُعيد ماتي بدقة بناء الكيفية التي صوّر بواسطتها اقتصاديون مثل رالف هوتري ولويجي إينودي التقشف كضرورة لا بدائل لها.

الصورة التي عكستها المصادر صادمة: كان الهدف الحقيقي من التقشف هو تأديب الطبقة العاملة واستقرار العلاقات الطبقية تحت ستار العقلانية العلمية. ان افتراض "نزع الطابع السياسي" عن القضايا الاقتصادية ومعالجتها دون أيديولوجية، هو مغالطة، لأن وراء العقل الاقتصادي الموضوعي المزعوم تكمن أيديولوجية رأس المال.

تبين ماتي بشكلٍ مُلفت للنظر الصورة النمطية السائدة للطبقة العاملة في أذهان هؤلاء الاقتصاديين: الكسل العام والمسؤولية الشخصية عن البؤس الاقتصادي الناجم عن العمل غير المُنتج. تبدو هذه الروايات مألوفة بشكلٍ مُخيف، فهي تُذكرنا بالخطاب السياسي حول أزمة اليونان في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أو بالنقاشات الراهنة في المانيا حول من يستحق المساعدات الاجتماعية.

يكشف التاريخ وجه التقشف الحقيقي بلا هوادة: لم يكن الهدف منه مكافحة التضخم أو استقرار الميزانيات، بل ضمان الأرباح من خلال تقييد الاستهلاك المحلي وقمع الأجور بشكل منهجي. كان الهدف من ذلك تمكين الصادرات الرخيصة وتحقيق أرباح سريعة. وُصفت البطالة مرارًا في الوثائق بأنها "شر لا بد منه"، أداة تُلزم العمال بقبول أي أجر، وتعرقل المقاومة بفعالية.

حين يسود رأس المال

تُعدّ مقارنة ماتي بين بريطانيا الديمقراطية وإيطاليا الفاشية مضيئة للغاية. فمن يتساءل كيف يُمكن مقارنة هذين النظامين السياسيين، اللذين كانا مختلفين تمامًا في عشرينيات القرن الماضي، سيُفاجأ بأوجه التشابه والإلهام المتبادل. فقد اتبع كلاهما سياسات التقشف نفسها، ولكن بوسائل مختلفة.

كان الاختلاف الجوهري يكمن ببساطة في التطبيق: فبينما لجأت بريطانيا العظمى إلى التخفيض، إجراءات التقشف، وإلى إجراءات داخلية في المصانع، بواسطة الإصلاحات والتخفيضات وفرض قيود على حق الإضراب النقابي، استطاعت سياسات موسوليني الفاشية فرض إجراءات التقشف بتدخل استبدادي مباشر. ووفقًا لماتي، إن التقشف يُطبّق في أي نظام سياسي طالما أن الرأسمالية تُحدد النظام الاجتماعي السائد.

تكتسب هذه الرؤية أهمية أكبر عند النظر إليها في الوقت الحاضر. فما فرضته الحكومات القومية آنذاك، تتولى تنفيذه الآن مؤسسات فوق قومية، مثل صندوق النقد الدولي أو البنك المركزي الأوروبي. ويتضح دور نزع الطابع السياسي عن الاقتصاد في هذه الأشكال من الحكم غير الشخصي، الذي يُملي على الدول، من خلال قواعد الديون، حجم عجزها للحفاظ على جدارتها الائتمانية. وهذا يعني خصخصة البنية التحتية الحكومية لخفض الإنفاق الاجتماعي، والحفاظ على أجور منخفضة لزيادة هوامش الربح، على الأقل في المدى القصير. ولذلك، تُعرّف ماتي، بدقة، حرية السوق بأنها "التحرر من مطالب الطبقة العاملة" امتثالاً لنظام رأس المال.

إن الرابحين من هذه السياسة معروفين اليوم أكثر من أي وقت مضى. فخلال جائحة كورونا، زادت ثروات المليارديرات حول العالم بنسبة 54 في المائة، بينما خشي ملايين الناس على وجودهم، ودفعوا في الوقت نفسه الى الادخار. إنه نظامٌ غادر يستغل الأزمات بشكلٍ منهجي لإعادة توزيع الثروة من الأدنى الى الأعلى، وبذلك يُسهم في تراكم ثروة الأثرياء.

بالتأكيد، قد يبدو تحليل ماتي التاريخي ضيق الأفق أحيانًا، نظرًا لأن الوضع الاقتصادي، لم يلعب دورا بمفرده، في صعود موسوليني إلى السلطة أو في التحول الأوروبي الحالي نحو اليمين. لكن أطروحتها الأساسية لا تزال مقنعة: ما دام "نظام رأس المال" يُحدد طابع الحياة الاجتماعية، فإن كل أزمة اقتصادية تُفضي إلى نفس الحل المفترض، التقشف على حساب الأغلبية الأضعف.

 القيود صناعة بشرية

يُمثل كتاب ماتي دراسةً علمية متميزة، ويُمثل في الوقت نفسه تحذيرًا سياسيًا قويًا بشأن المعنى الحقيقي لما يُسمى بالتقشف: بطالة، وفقر، وانخفاض الأجور، وتهديد استبدادي للهياكل الديمقراطية. إنه استفزازٌ مُبرَّرٌ وفي الوقت المناسب، يُذكرنا بأن وراء اللغة "الموضوعية" للاقتصاد تكمن أيديولوجياتٌ ملموسة.

يُذكرنا تحذير ماتي بمقولة ماكس هوركهايمر عام ١٩٣٩(أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت – المترجم): "من لا يريد الحديث عن الرأسمالية عليه أيضًا الصمت بشأن الفاشية". في وقتٍ تتصاعد فيه الحركات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا، ويُشاد فيه بسياسات التقشف باعتبارها البديل الوحيد، يُصبح هذا الدرس التاريخي ذا أهمية مُقلقة. ويدحض بفكرة أن سياسات التقشف قرار سياسي ذو عواقب وخيمة. توضح إعادة ماتي الدقيقة لأصول هذه السياسات أن ما يبدو حتميًا هو من صنع الإنسان، وبالتالي قابل للتغيير أيضًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن صحيفة "نويز دويجلاند" الألمانية – 14 آب 2025

عرض مقالات: