بدون شك حظيت مساهمات بوبر حول منهج ومنطق العلم بشهرة الى الحد الذي أصبحت فيه اهم المصادر الأوروبية الحديثة من الجانبين الاعجاب والنقد في الأوساط الاكاديمية والاعلام الغربي كأحد رموز الفكر الليبرالي في المعرفة والمنهجية العلمية التي تحوم حول معاداة الشيوعية والاشتراكية. ويختلف بوبر عمن سبقه ممن كتبوا عن فلسفة العلم انه لم يدرسها، بل بالكاد نجح في امتحان الفلسفة في شبابه واعتمد التثقيف الذاتي لتعميق مداركة الفلسفية.

وكان بوبر (1902-1994) الذي ولد في فيينا من عائلة يهودية (تحولت الى المذهب البروتستانتي) مترفة حتى افلاس والده. وتميزت طفولته بثقافة أدبية وموسيقية مميزة. وفي فترة من شبابه تأثر بوبر بماركس وحفزه هذا التأثر على المشاركة الهامشية في أنشطة يسارية غادرها بعد ثلاثة أشهر نتيجة فشل انتفاضة 1919 في فيينا وصعود الفاشية وكان استنتاجه ان على المرء ان يكون حذرا في التفكير والابتعاد عن العنف الذي قد يؤدي الى التضحية بالحياة لذا كان منطقيا ان يرفض المفاهيم الماركسية حول الثورة و الصراع الطبقي فاعتبر الاشتراكية خيالا ذهب ضحيته أبرياء بدون مبرر عقلاني ووجد الحل الأمثل في الفكر البرجوازي الليبرالي.

ومن أولى كتاباته بعد انتقاله الى نيوزلندا في 1937 “المجتمع المفتوح” الذي تناغم مع جو الحرب الباردة وروج على نطاق واسع كأحد مكونات ثقافة تبشيع الفكر الماركسي والشيوعي والسرديات الليبرالية التي تنتقد الاتحاد السوفيتي والإشادة بعظمة النظام الليبرالي وانجازاته. هذه النمطية المرغوبة لدى البرجوازية وفرت له الجو للتقدم الوظيفي والأكاديمي وحصوله لاحقا على القاب شرفية في بريطانيا وأوروبا.

 ويرى بوبر ان جذور الفكر الشمولي تعود الى كتاب “الجمهورية” لأفلاطون تم التقاطها لاحقا من قبل هيجل وماركس وتطويرها بإضافات حول قوانين تتحكم بحركة المجتمعات وتهيمن على حياة ومستقبل الفرد، وتشترك في العداء للمجتمع المفتوح . وفي سنوات الحرب الباردة التي اعتبرها بوبر معركة مصيرية بين الشمولية والليبرالية، أصبحت كتاباته الى جانب جورج أورويل (1903-1950) وحنا أرندت (1906-1975) وآخرين جزءا من الترسانة الفكرية المعادية للاتحاد السوفيتي والماركسية واصبحوا ايقونات الصالونات الثقافية الى الحد الذي اطلق ايزايا برلين (1909-1997) على نقد بوبر للماركسية الأشد خطرا والأكثر تأثيرا مما وجه لها.

وفي سنواته الأولى في لندن بعد هجرته اليها عام 1945 وبدعم من برتراند رسل ( 1872-1970) حيث شغل كرسي منهجية ومنطق العلم في كلية لندن للاقتصاد ركز بوبر على تطوير مفاهيم  التفنيد والتكذيب والتمييز عبر اخضاع الفرضيات للملاحظة والتجريب ولكن اعتبر هذا المنهج العلمي للتفنيد لا ينطبق على العلوم الإنسانية لمحدودية دور التجريب فيها واطلق عليها الإشكالية “التاريخانية”.

واتبع في مشروعه حول منهج ومنطق العلم بمقاربة مضادة للذرائعية البراغماتية التي تلغي دور الفكر النظري فتعتمد وظيفة المعرفة ومصداقيتها على قدر نفعها وفائدتها للفرد بغض النظر عن المحتوى الأخلاقي والفكري لان المنفعة هي مقياس صحة الفكرة ومصداقيتها اما أفكار الناس فمجرد ذرائع يستخدمها الفرد لحفظ ذاته ومصالحه. وقد تصدى بوبر أيضا الى كل من المدرسة الوضعية والوضعية المنطقية التي ألغت دور الميتافيزيقيا والتأكيد على مقاربة التحقق التجريبي الحسي لتأكيد مصداقية الفرضيات ولكن بوبر أضاف معيار التفنيد كمنهج نقدي (وهي أهم اضافاته) لان الملاحظة والتجربة وحدها غير كافية  فتصبح الأدلة على عدم  التفنيد مصدر ضعف وليس قوة لذا يكون الاختبار الحقيقي هو في التفنيد (لاحظ في اللغة العربية مفردتي الدحض وتعني تقديم حجة مضادة لما يقدمه الطرف الاخر والتفنيد وهو اظهار خطأ او لاعقلانية  وضعف الفرضية) .

ومن إيجابيات مساهمات بوبر تصديه لمقاربة الاستقراء. ففي رأيه ان نجاح العلم   يعتمد على العبقرية والحظ واتباع القواعد والمعايير الصحيحة في المنهج واعتبر الاستقراء خرافة. حيث تقرر الملاحظة والتجربة ونتائج الاختبارات مصير النظرية قبولا او رفضا. فمنهج بوبر لا استقرائي في منطق ومنهج العلم (التوصل الى تعميم بالاستناد الى معطيات وملاحظات أي الاستدلال على العام بالخاص ولكنها ليست يقينية بينما في الاستنباط يتم الحصول على معلومات خاصة من معطيات عامة) وقيم نظرية اينشتاين عاليا كونها مستندة على المقاربة العلمية الصحيحة ونموذجا لمقاربة التفنيد. وجرى خوض معارك سياسية وأيديولوجية مع اليسار الاشتراكي باعتبارهم أعداء للمجتمع المفتوح الذي هو حلم الانسان ومصدر حريته ولكن اشبه بدون كيشوت الذي حارب طواحين على الأرض، اما بوبر فكانت طواحينه في مملكة الفكر. فقد رفض بوبر “التاريخانية” التي عنت لديه الفلسفات التي ترى أن حركة التاريخ والمجتمعات تجرى وفق قوانين عامة محددة مثل ماركس وهيغل، بل ويعتبر داينمو التطور التاريخي هو العلم والذكاء الخارق لأفراد عباقرة فلا يوجد مسار تاريخي محدد او ارتقائية حتمية. وتمثل حرية الفرد لدى بوبر حقه في اختيار طريقة الخاص بدون تحكم السلطة لفرض المساواة الزائفة المعرقلة للتقدم لان الاشتراكية ليست حتمية تاريخية كما تدعي الماركسية فمستقبل الانسان هو ملكه ولا توجد قوانين مسبقة تتحكم به .

ولم ينتبه بوبر الى ان المادية التاريخية نظرت الى التعامل النقدي مع النظريات والمفاهيم واختبارها تطبيقيا عبر التجربة في العالم الموضوعي هي احد اركان نظرية المعرفة لان النظريات مجرد نسخ من الواقع بالمنظور المعرفي التي يتم التحقق من صدقيتها عبر الملاحظة والتطبيق فما يسميه تاريخانيا هو في حقيقه الامر تصور مغلوط للنظرية الديالكتيكية في المعرفة وكما يبدو بسبب محدودية   معرفة بوبر بقوانين ومقولات المادية الديالكتيكية والتاريخية والتي فيها يحتل العلم  مكانة خاصة لاعتمادها على  نظريات وحقائق يمكان اخضاعها للتجريب وهو في تقدم مستمر. لقد ولد الفكر النظري العلمي الحديث في عصر التنوير الاوروبي للاقتراب من المعرفة الحقيقية كثقافة تقدمية مناهضة لسيطرة الكنيسة  عززت نمو العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات وتأثرت بها أيضا عبر تغيير البنية المعرفية نتيجة الانتصار التدريجي للمادية على الميتافيزيقيا وظهور المقاربة  المادية الديالكتيكية التي بقيت مجهولة لدى اغلبية العلماء والمفكرين او في حالة اعتمادها تقطع الطريق امام التقدم الاكاديمي بسبب “المكارثية” الثقافية التي تسود في الغرب و وجدت طريقها الى المراكز الاكاديمية العربية بتهمة الشيوعية  .

 فمصدر المعرفة لدى الماركسيين هو العالم المادي الخارجي ندركه عبر الاحساسات التي تصلنا على شكل نسخ له ويتعامل معها الدماغ لتشكيل الوعي المعرفي وتتميز بالديناميكية وفي حركة دائمة على أساس وحدة وصراع مكوناتها في العالم المادي. في هذا المنظور يكون التطبيق هو معيار التحقق من مصداقية النظرية وعبر التعامل النقدي معها وهي دائما رمادية وتطبيقها على الواقع الحي المتجدد دائما هو معيار مصداقيتها التي شكلت الاساس الفلسفي والمنهج العلمي لنظرية المعرفة الماركسية. في هذه العملية تتعارض المفاهيم النظرية والعلمية مع بعضها وفيما بينها وتتغير خلال عملية تطور المعارف بنماذج اكثر ملائمة فلسفيا او تطبيقيا وادق علميا وهذا هو ما يحدث في تطور العلوم المعاصرة  وهذه نقطة التقاء مع مفهوم بوبر حول معيار التفنيد و لكن بخصوصيات المنهج الجدلي .

واستمرارا لهوسه في دحض الماركسية طرح نظرية العوامل الثلاثة كوسيلة  لحل  إشكالية مؤرقة للفلاسفة وهي العلاقة بين الدماغ البشري والعالم المادي التي مازالت احد تخوم المعرفة المجهولة على الرغم من التقدم غير المسبوق في فهم فسلجة الدماغ باعتماد تقنيات القرن الحادي والعشرين الرقمية. وقد حاول بوبر مواجهتها بتوليفة عن وجود ثلاثة عوالم محايدة ولكن تتفاعل فيما بينها الأول هو عالم  المادة الموضوعي الاقدم ومكوناته حية وغير حية قابلة للقياس والتجريب   وتنسحب عليه القيم المعيارية، والثاني عالم العقل الواعي والسلوك والخبرات  النفسية مثل المشاعر والرغبات والذكريات والعواطف وموضوعات يمكن اختبارها منهجيا مثل العلوم لكنها ذاتية وتحتاج الى وجود عقل، والثالث عالم محتوى الفكر من النشر العلمي والادبي والشعري والفني وجميعها أدوات مادية ونتاج ابداعات الانسان الخلاقة التي نمت مع ظهوره وخاصة مع ظهور اللغة كنشاط انساني. وقد أقر بوبر عند مناقشته لها ان نظريته عن العوالم الثلاث هي فرضية غير قابلة للتفنيد والتحقق.

عرض مقالات: